الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والشرط الخامس أن لا يعود الوقف عليه ، ولا شيء منه ، وإن وقفه على نفسه لم يجز ، وقال أبو يوسف : يجوز وقف الرجل على نفسه ، وبه قال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن شرط أول الوقف لنفسه جاز ، وإن شرط جميعه لنفسه لم يجز ، وبه قال أبو العباس بن سريج ، واستدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين ضاق المسجد به : من يشتري هذه البقعة ويكون فيها كالمسلمين وله في الجنة خير منها ، فاشتراها عثمان . وقال في بئر رومة : من يشتريها من ماله ، واشتراها عثمان - رضي الله عنه - واشترط فيها رشا كرشا المسلمين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال الزبيري : كيف ذهب هذا على الشافعي ، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحب البدنة : اركبها إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا فجعل له الانتفاع بما أخرجه من ماله لله تعالى ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عتق صفية ، وجعل عتقها صداقها معادا إليه بعد أن أخرجه لله ، ولأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقف دارا له فسكنها إلى أن مات ، وأن الزبير بن العوام جعل رباعه صدقات موقوفات فسكن منزلا منها حتى خرج إلى العراق ، ولأنه لما استوى هو وغيره في الوقف العام جاز أن يستوي هو وغيره في الوقف الخاص .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن وقفه على نفسه لا يجوز لقوله - صلى الله عليه وسلم - : حبس الأصل وسبل الثمرة وبتسبيل الثمرة يمنع أن تكون له فيها حق ولأن الوقف صدقة ، ولا تصح صدقة الإنسان على نفسه ، ولأن الوقف عقد يقتضي زوال الملك فصار كالبيع والهبة ، فلما لم تصح مبايعة نفسه ولا الهبة بها لم يصح الوقف عليها ، ولأن استثناء منافع الوقف لنفسه كاستثنائه في العتق بعض أحكام الرق لنفسه ، فلما لم يجز هذا في العتق لم يجز مثله في الوقف ، ولأن الوقف يوجب إزالة ملك باستحداث غيره وهو إذا وقف على نفسه لم يدل بالوقف ملكا ، ولا استحدث به ملكا فلم يجز أن يصير وقفا ، وأما الجواب عن استدلالهم بأن عثمان شرط في بئر رومة أن يكون دلوه كدلاء المسلمين فهو أن الماء على أصل الإباحة لا يملك بالإجارة فلم يقف ما اشترطه لنفسه من البئر شيئا ، ولو لم يذكر ذلك لكان دلوه فيها كدلاء المسلمين ، وإنما ذكر هذا الشرط ليعلمهم أنه لم يستأثر بها دونهم وأنه فيها كأحدهم .

                                                                                                                                            [ ص: 526 ] وأما الجواب عن قوله لصاحب البدنة : اركبها إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ليس المقصود من البدنة منافعها فجاز أن يعود إليه ، والمقصود من الوقف منافعه فلم يجز أن يعود إليه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما جاز في البدنة أن يأكل منها من غير شرط جاز أن يعود إليه منافعها ، ولا يجوز في الوقف أن يعود إليه شيء منه يعتبر شرطا ، فكذلك لا يعود إليه بالشرط . وأما الجواب عن عتقه لصفية فهو أن العتق على عوض جائز ، والوقف على عوض غير جائز .

                                                                                                                                            وأما سكنى عمر ، والزبير - رضي الله عنهما - ، وما وقفاه فقد يجوز أن تكون سكناهما بعد استطابة نفوس أربابه : لأن نفس من وقف عليه لا يأتي إرفاق الوقف به ، ولو منعه لامتنع ، أو يكون قد استأجر ذلك من واقفه .

                                                                                                                                            وأما الوقف العام فسنذكر من حكمه ما يكون جوابا عنه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية