الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 53 ] مسألة : قال الشافعي : " والإقامة فرادى إلا أنه يقول قد قامت الصلاة مرتين ، وكذلك كان يفعل أبو محذورة مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن قال قائل : قد أمر بلال بأن يوتر الإقامة . قيل له فأنت تثني الله أكبر الله أكبر فتجعلها مرتين

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف الناس في الإقامة على ثلاثة مذاهب : أحدها : وهو مذهب الشافعي أنه فرادى إلا قوله : " قد قامت الصلاة . " فإنه يقول مرتين فتكون إحدى عشرة كلمة ، وبه قال من الصحابةعمر ، وابن عمر ، وأنس ، ومن التابعين الحسن ، وابن سيرين ، ومن الفقهاء أحمد ، وإسحاق

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : وهو مذهب مالك أنه فرادى مع قوله قد قامت الصلاة فيكون عشر كلمات ، وبه قال الشافعي في القديم

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : وهو مذهب أبي حنيفة : أنه مثنى مثنى كالأذان وزيادة قوله " قد قامت الصلاة " مرتين فيكون سبع عشرة كلمة

                                                                                                                                            استدلالا برواية عامر الأحول أن مكحولا حدثه أن ابن محيريز أخبره أن أبا محذورة حدثه قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة يوم فتح مكة والإقامة سبع عشرة كلمة " . وبرواية أبي حنيفة أن بلالا كان يؤذن مثنى مثنى ، ويقيم مثنى مثنى

                                                                                                                                            وروي أن أبا طالب - رضي الله عنه - سمع رجلا يفرد الإقامة فقال : ثن لا أم لك قال : ولأنه دعاء إلى الصلاة فوجب أن يكون مثنى كالأذان قال : ولأنه أحوط في الإقامة فوجب أن يكون كهو في الأذان كالطرف الأخير . قال : ولأن في الإقامة ما ليس في الأذان فلا يكون ما فيها ما في الأذان أولى

                                                                                                                                            ودليلنا : رواية سماك عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس : أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة

                                                                                                                                            وروى يعمر عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلى قوله : قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة

                                                                                                                                            وروى شعبة عن أبي جعفر عن أبي المثنى عن ابن عمر قال : إنما كان الأذان على [ ص: 54 ] عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين ، والإقامة مرة مرة غير أنه يقول : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة

                                                                                                                                            وروى عمار بن سعد القرظ عن أبيه أنه أذن مثنى مثنى ، وأقام فرادى ، وقال هذا الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن به لأبي سلمة بن الأكوع ، فإنه كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى ، والإقامة فرادى

                                                                                                                                            وروى محمد بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب أنه قال : نزل جيريل بالإقامة فرادى ، ولأنه ثان لأول يستفتح بتكبيرات متوالية فوجب أن يكون الثاني أقصر من الأول ، كصلاة العيدين في عدد التكبير ، ولأن الأذان أوفى صفة من الإقامة ، لأنه يأتي به مرتلا ، وبالإقامة أدراجا ، فاقتضى أن يكون أوفى قدرا ، كالركعتين الأوليتين لما كانت أوفى صفة بالجهر كانت أوفى قدرا بالسورة ، ولأن أسباب الصلاة إذا تجانست ، وبني أحدهما على التخفيف بني على التبعيض ، كالتيمم لما جانس الوضوء ثم يبنى على التخفيف في تجويزه بالتراب ، والمسح بني على التخفيف في الاقتصار من الأعضاء على البعض والرأس ، لما قصر عن الأعضاء بالتخفيف قسما قصر عنها بالتخفيف تبعيضا ، فلما كانت الإقامة مبنية على التخفيف أدراجا اقتضى أن يكون على التخفيف تبعيضا

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث أبي محذورة وبلال فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها كانت متقدمة تعقبها أخبارنا ، لأنه أمرهم بالإفراد بعد أن كانوا على خلافه

                                                                                                                                            والثاني : أنها وإن عارضت أخبارنا ، فأخبارنا أولى لمطابقة فعل أهل الحرمين لها

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الأذان فالمعنى فيه أنه لما وضع للإعلام كان أكمل قدرا كما كان أكمل صفة ، والإقامة لما وضعت للاستفتاح كانت أقل قدرا ، كما كانت أقل صفة

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الطرف الآخر فلا يصح ، لأن الأذان لما كان موضوعا للإعلام وكان الإعلام بأوله كان أوله زائدا على آخره لحصول الإعلام بأوله ، والإقامة لما كانت موضوعة للاستفتاح جاز أن يستوي أولها وآخرها

                                                                                                                                            وأما قولهم : إنه لما كان في الإقامة ما ليس في الأذان فأولى أن يكون فيها ما في الأذان ، ففاسد بالتثويب ثم بالترتيل ، فإن صح ما ذكرنا فالسنة في الأذان التثنية بالترجيع ، والسنة [ ص: 55 ] في الإقامة الإفراد إلا في قوله : " قد قامت الصلاة " . وقال أبو العباس بن سريج : كل هذا من الاختلاف المباح وليس بعضه بأولى من بعض ، وهذا قول مطرح بإجماع المتقدمين على الاختلاف في أفضله وأوله

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية