قال الماوردي : اعلم أن اسمان يشتركان من وجه ويفترقان من وجه ، فأما الوجه الذي يشتركان فيه فهو الضعف ، وأن كل واحد منهما إذا أفرد بالذكر شاركه الآخر فيه حتى لو وصى بثلث ماله للفقراء شاركهم المساكين ، ولو وصى به للمساكين شاركهم الفقراء . الفقر والمسكنة
وأما الوجه الذي يفترقان فيه فهو أنه إذا جمع بينهما تميزا ، ثم اختلف في تميزهما عند الاجتماع فذهبت [ ص: 488 ] طائفة إلى تميزها بالاختلاف في الصفة مع تساويهما في الضعف والحاجة ، ومن قال بهذا اختلفوا في الصفة التي بها وقع التمييز بينهما على أربعة أقاويل : هل يكون التمييز بينهما باختلافهما في الحاجة ، أو باختلافهما في الصفة ؟
أحدها : أن الفقير هو المحتاج المتعفف عن السؤال والمسكين هو المحتاج السائل ، وهذا قول ابن عباس والحسن والزهري .
والثاني : أن الفقير هو ذو الزمانة ، والمسكين هو الصحيح الجسم من أهل الحاجة ، وهذا قول قتادة .
والثالث : أن الفقراء هم المهاجرون والمساكين غير المهاجرين ، وهذا قول الضحاك بن مزاحم وإبراهيم النخعي .
والرابع : أن الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الكتاب ، وهذا قول عكرمة .
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء إلى أن تمييزهما بالاختلاف في الضعف والحاجة وإن تساويا في الصفة ، وأن أحدهما أسوأ حالا من الآخر ، فبذلك تميز عنه ، ثم اختلفوا في أيهما أسوأ حالا الفقير أو المسكين ، فذهب الشافعي إلى أن الفقير هو أسوأهما حالا وهو الذي لا شيء له ، أو له يسير تافه لا يؤثر في قدر حاجته .
والمسكين : هو الذي له ما يؤثر في حاجته ويقتصر على كفايته ، فإذا كانت كفاية الواحد عشرة ، فإن وجدها فليس بمسكين ولا فقير ، وإن عدمها أو وجد أقلها كان فقيرا ، وإن وجد أكثرها كان مسكينا وهذا في أهل اللغة قول الأصمعي ، وقال أبو حنيفة : المسكين أسوأ حالا من الفقير ، فالمسكين عنده على صفة الفقير عندنا والفقير عنده على صفة المسكين عندنا ، وهو في أهل اللغة قول الفراء وثعلب واختاره أبو إسحاق المروزي من أصحابنا استدلالا بقوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة [ البلد : 16 ] أي ملصقا بالتراب لضره وعريه ؛ وليس أحد أسوأ حالا ممن هذه صفته ، فدل على أن المسكين أسوأ حالا من الفقير وبقوله تعالى : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين [ البقرة : 177 والسائل أحسن حالا فدل على أن المسكين أسوأ حالا ، ولأن الله تعالى خص بمصرف أموال الطهرة من ذوي الحاجات من القرب والكفارات على المساكين دون الفقراء ، فدل تخصيصهم بالذكر على اختصاصهم بسوء الحالة .
قالوا : وقد حكي عن يونس قال : قلت لأعرابي أمسكين أنت ؟ فقال : لا والحمد لله ، بل فقير ، فدل على أن : لأن الحمد يكون على أحسن الحالين ويدل على هذا أيضا قول : الفقير أحسن حالا من المسكين
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سيد
فسماه فقيرا وله حلوبة هي وفق عياله .
[ ص: 489 ] ودليلنا قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين [ التوبة : 60 ] فبدأ بذوي الحاجات بالفقراء والبداية تكون بالأهم فاقتضى أن يكون الفقر أسوأ حالا وقال تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله [ فاطر : 15 ] ولم يقل المساكين ؛ فدل على أن الفقير أمس حاجة وأسوأ حالا من المسكين وقال تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر [ الكهف : 79 ] فسماهم مساكين ولهم سفينة ، فدل على أن المسكين أحسن حالا .
وروى أبو زهرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يسألون الناس إلحافا ، فكان هذا نصا في أن المسكين أحسن حالا . ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين المتعفف ، اقرءوا إن شئتم
وروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كاد الفقر أن يكون كفرا ، وكاد الحسد أن يغلب القدر ، فكان هذا نصا على أن الفقير أسوأ حالا .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : فدل على أن المسكين أحسن حالا . اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان يتعوذ من الفقر اللازب ، يعني : اللازم ، فدل على أن الفقير أسوأ حالا .
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : ليس المسكين الذي لا مال له ، ولكن المسكين الأخلق الكسب قال ابن علية : الأخلق الكسب : المحارف ؛ ولأن في اشتقاق الفقر والمسكنة دليلا على أن الفقر أسوأ حالا من المسكنة .
أما الفقر فقد اختلف في اشتقاقه فقال قوم : هو مشتق من انكسار الفقار وهو الظهر الذي لا تبقى معه قدرة .
وقال آخرون : هو مشتق من الفاقة ومن قوله تعالى : تظن أن يفعل بها فاقرة [ القيامة : 25 ] وفيها ثلاثة تأويلات : [ ص: 490 ] أحدها : أنها [ الفاقرة ] الداهية العظمى ، وهو قول مجاهد .
والثاني : أنها الهلاك المستأصل ، وهو قول السدي .
والثالث : أنه الشر المحلى ، وهو قول قتادة ؛ وعلى أي التأويلات كان فهو للمبالغة في سوء الحال .
وأما المسكنة فقد اختلف في اشتقاقها فقال قوم : هي مشتقة من التمسكن وهو الخضوع ، وقال آخرون : هي مشتقة من السكون : لأن المسكين ما يسكن إليه ، فدل على أنه أحسن حالا ، ولأن شواهد أشعار العرب تدل على ذلك ، أنشد ابن الأعرابي لبعض العرب :
هل لك في أجر عظيم تؤجره تغيث مسكينا قليلا عسكره
عشر شياه سمعه وبصره قد حدث النفس بمصر يحضره
فسماه مسكينا وله عشر شياه ، فدل على أن للمسكين مالا وأنه أحسن حالا .
وأما الجواب عن قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة [ البلد : 16 ] فهو أن المراد بالمسكين هاهنا الفقير : لأنه لم يطلق ذكره ، ولكن قيده بصفات الفقراء ، وقد ينطلق اسم المسكين على الفقير كما ذكرنا ، وإنما كلامنا في المسكين الذي قد أطلقت صفته .
وأما الجواب عن الآية الأخرى فهو أن السائل لا يكون أحسن حالا من المتعفف : لأنه قد يسأل فيحرم ويتعفف فيعطى .
وأما الجواب عن قول الأعرابي : لا والحمد لله أنا فقير ، فهو إذا أبان بذلك منزلته في الشكر مع شدة الضر .
وأما الشعر فلا دليل فيه : لأنه بعد أخذ الحلوبة سماه فقيرا حين لم يترك له سيد ، فإذا ثبت أن الفقير أسوأ حالا من المسكين فقد يكون الفقير سائلا وغير سائل ، وقد يكون المسكين سائلا وغير سائل ، وهو معنى قول الشافعي في الجديد والقديم من التسوية فظن المزني أن قوله قد اختلف فيه فجعل الجديد أولى وليس كما ظن ، والله أعلم .