الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            الدليل على جواز الخلع

                                                                                                                                            والأصل في إباحة الخلع قول الله تعالى : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا [ البقرة : 229 ] وهذا خطاب للأزواج حذر الله تعالى عليهم أن يأخذوا من أزواجهم ما آتوهم من الصداق بغير طيب أنفسهم ، ثم قال : إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله . والخوف هاهنا بمعنى الظن ، وتقديره إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                            أتاني عن نصيب كلام يقول وما خفت يا سلام أنك عاتب

                                                                                                                                            وفيما يخافا ألا يقيماه من حدود الله تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : هو كراهة كل واحد منهما لصاحبه وهذا قول ابن المسيب . [ ص: 4 ] والثاني : أنه من الزوجة ألا تطيع له أمرا ، ومن الزوج ألا يؤدي لها حقا .

                                                                                                                                            ثم قال : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : فيما افتدت به نفسها من الصداق الذي أعطاها لا غير ، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام .

                                                                                                                                            والثاني : من جميع مالها وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما .

                                                                                                                                            وقال تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا يعني من الصداق فكلوه هنيئا مريئا فإذا أباح أن يأخذ ما طابت به نفسا من غير طلاق كان بالطلاق أولى .

                                                                                                                                            ويدل عليه من السنة ما رواه الشافعي عن مالك عنه يحيى بن سعيد عن عمرة أن حبيبة بنت سهل أخبرتها أنها كانت عند ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لصلاة الصبح فوجدها عند بابه بالغلس ، فقال : من هذه ؟ فقلت : أنا حبيبة بنت سهل . قال : ما شأنك ؟

                                                                                                                                            قلت : لا أنا ولا ثابت لزوجها ، فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر ، فقالت حبيبة : يا رسول الله كل ما أعطاني عندي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ منها ، فأخذ منها ، وجلست في أهلها .
                                                                                                                                            يعني خذ منها وطلقها . فدل هذا الحديث على أحكام منها : جواز استماع الدعوى على غائب .

                                                                                                                                            ومنها : أن المدعي إذا عرف الدعوى لم يحتج الحاكم أن يعيدها عليه .

                                                                                                                                            ومنها : جواز الخلع وإن كان الزوج قد ضربها ، وإذا لم يكن الضرب لأجل الخلع .

                                                                                                                                            ومنها : جواز الخلع في الحيض والطهر لأنه لم يسأل عن حالها .

                                                                                                                                            ومنها : أنه لا رجعة على المختلعة لأمره لها بالجلوس في أهلها .

                                                                                                                                            فدل ما ذكرناه من الآية والخبر على جواز الخلع وهو قول الجماعة وحكي عن بكر بن عبد الله المزني أن الخلع منسوخ بقوله تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا فدلت هذه الآية على تحريم الخلع ونسخ ما تقدم من إباحته ، وهذا خطأ ، لأن هذه الآية منعت من أخذ ما لم تطب به نفسا ولم تمنع مما بذلته بطيب نفس واختيار كما قال : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل أن الربيع بنت [ ص: 5 ] معوذ بن عفراء حدثته قالت : كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضر ، ويحرمني إذا غاب ، قالت : وكانت مني زلة يوما ، فقلت : أخلع منك بكل شيء أملكه ، قال : نعم ، قالت : ففعلت فخاصم عني معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ ما دون عقاص الرأس .

                                                                                                                                            وروى أيوب عن كثير مولى سمرة أن عمر بن الخطاب أتي بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل فحبسها فيه ثلاثا ثم دعاها ، فقال كيف وجدت مكانك ؟ قالت : ما وجدت راحة مذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني ، فقال لزوجها : اختلعها ولو من قرطها .

                                                                                                                                            وهذه قضية إمامين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع لم يخالفهما فيها من الصحابة أحد ، فدل على إجماعهم على ثبوت حكمه ، ولأنه لما جاز أن يملك الزوج البضع بعوض ، جاز أن يزيل ملكه عنه بعوض كالشراء والبيع ، فيكون عقد النكاح كالشراء والخلع كالبيع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية