الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 184 ] فصل : فأما العالم بتحريم الكلام إذا شمت في صلاته عاطسا أو رد سلاما فصلاته باطلة ، ولكن لو تنحنح أو تأوه أو بكى لم تبطل صلاته ، إلا أن يكون كلاما مفهوما يصح في الهجاء فيبطل حينئذ

                                                                                                                                            وقد روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء

                                                                                                                                            قال أهل العلم يعني : غليان جوفه بالبكاء صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                            وأصل الأزيز الالتهاب والحركة ، فأما إن نظر في كتاب يفهم ما فيه لم تبطل صلاته ، قال الشافعي : لأنا لو أبطلناها به لأبطلها ما يخطر على باله ، وإن حرك به لسانه بطلت صلاته يعني ، حركة مفهومة ، فلو قرأ في صلاته من مصحف جاز ، ولم تبطل صلاته

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : تبطل صلاته ، لأن تصفح الأوراق عمل كثير ، وهذا خطأ ، لأن بطلان صلاته إما أن يكون لأجل النظر ، أو التصفح ، فلم يكن لأجل النظر ، لأنه لو قرأ في مصحف بين يديه لم تبطل صلاته ، وليس التصفح عملا كثيرا لما بين تصفح الأوراق من بعد المدى فدل على صحة صلاته فأما المحدث في صلاته فله حالان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يقصد الحدث وتعمده فصلاته باطلة إجماعا فعليه تجديد الطهارة ، واستئناف الصلاة

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يغلبه الحدث ويسبقه من غير قصد فطهارته قد بطلت ، وفي بطلان صلاته قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : وبه قال في القديم ، وبه قال أبو حنيفة ، رحمه الله ، يتوضأ ويبني على صلاته ما لم يتطاول الفصل ، أو يفعل ما يخالف الصلاة من أكل ، أو كلام ، أو عمل طويل

                                                                                                                                            والقول الثاني : وبه قال في الجديد : وهو الصحيح ، قد بطلت صلاته ولزمه استئنافها

                                                                                                                                            وقال مالك : إن كان ذلك في أول الصلاة بنى ، وإن كان في آخرها استأنف وكذا الكلام في النجاسة إذا أصابت جسده ، أو خرجت من جسده مثل قيء ، أو رعاف ، أو دم خراج ، فحصلت على ظاهر جسده فعلى قوله في القديم يغسل النجاسة ويبني على صلاته ما لم يتطاول الزمان ، وعلى الجديد يستأنف ولكن لو فار دم جرحه فلم يصب شيئا من بدنه مضى على صلاته في القولين معا ، وخالف أبو حنيفة مذهبه في خروج النجاسة فقال : يستأنف صلاته استحسانا لا قياسا ، فإذا قيل يبني على صلاته في القديم ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، [ ص: 185 ] وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعائشة ، رضي الله عنهم ، وهو قول أبي حنيفة ، وأكثر الفقهاء

                                                                                                                                            ودليله ما رواه ابن أبي مليكة وعروة عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قاء أحدكم في صلاته أو رعف فلينصرف وليبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلم ولأنه حدث في صلاته بغير فعله فوجب أن لا يبطلها قياسا على حدث المستحاضة ، وسلس البول وإذا قيل : تبطل صلاته في الجديد ، وهو قول عثمان بن عفان ، والمسور بن مخرمة ، رضي الله عنهما ، فدليله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فينفخ بين أليتيه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا فأمره بالانصراف حين حدوث الصوت والريح ، فإن قيل : نحن نأمره بالانصراف فيهما للطهارة فقد استعملنا ظاهر الخبر ، قيل : هذا خطأ لأنكم تقولون ينصرف وهو في الصلاة والانصراف من الصلاة يقتضي الخروج منها ، ولأنه حدث في الصلاة يمنعه من المضي فيها فوجب أن يمنعه من البناء عليها

                                                                                                                                            أصله حدث العامد ، وعكسه سلس البول ، وحدث المستحاضة ، ولأن " كل ما أبطل الطهارة أبطل الصلاة " ، كانقضاء مدة المسح ، ولأن ما استوى عمده وسهوه في إبطال الطهارة استوى عمده وسهوه في إبطال الصلاة كالاحتلام ، ولأن ما منع من الصلاة بالحدث العامد منع من الصلاة بالحدث السابق قياسا على المضي فيها ، فأما قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا قاء أحدكم في صلاته أو رعف " الحديث ، فضعيف ، لأنه رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، وعروة ، وعلى أنه لو صح لكان قوله صلى الله عليه وسلم وبنى على صلاته يحتمل أمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن معنى البناء الاستئناف ، كما تقول العرب : بنى الرجل داره إذا استأنفها

                                                                                                                                            والثاني : أنه محمول على مسافر أحرم بالصلاة ينوي الإتمام : ثم أحدث فعليه البناء على حكم صلاته على وجوب الإتمام ، فيحمل على أحدهما بدليل ما ذكرناه

                                                                                                                                            وأما القياس على المستحاضة ، وسلس البول فالمعنى فيه : أنه لما يمنع المضي فيها لم يمنع من البناء عليها

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية