الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو شهدا أنه ضربه ملففا ، فقطعه باثنين ، ولم يبينا أنه كان حيا ، لم أجعله قاتلا ، وأحلفته ما ضربه حيا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما شهادة الشاهدين بالقتل فغير مفتقرة إلى إثبات الحياة عند القتل : لأن القتل هو إماتة الحياة ، فدلت على وجود الحياة عند القتل . فأما إذا شهدا أنه قطع ملفوفا في ثوب باثنين ، فهذه شهادة محتملة : لأنه قد يجوز أن يكون عند القطع حيا ، ويجوز أن يكون ميتا ، فيسأل الشاهدان لأجل هذا الاحتمال عن حال الملفوف ، ولهما فيه ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يشهدا بحياته عند قطعه ، أو بمشاهدة حركته أو باختلاجه بعد قطعه ، فهذا كله شهادة بالحياة : لأنه لا يختلج بعد القطع إلا حي .

                                                                                                                                            فأما الشهادة بسيلان دمه عند قطعه ، فلا تكون شهادة بحياته ، وإن كان دم الميت جامدا : لأن جمود دمه يكون بعد فتور حرارته ، وقد يحتمل أن يكون قد مات لوقته ، قبل فتور حرارته وجمود دمه ، فلذلك لم تثبت فيه الحياة .

                                                                                                                                            والحالة الثانية : أن يشهدا موته عند قطعه ، فيصيرا شاهدين بنفي الحياة ، وإثبات [ ص: 81 ] الموت ، فلا تسمع شهادة غيرهما بحياته ، وينتفي عنه حكم القتل ، ويعزر أدبا على قطع ميت : لانتهاك حرمته .

                                                                                                                                            والحالة الثالثة : أن يجهلا حاله عند قطعه ، فلا يشهدا بحياته ولا موته . فإن تصادق المدعي والمدعى عليه على حياة أو موت ، عمل على تصادقهما . وإن تنازعا ، فقال المدعي : كان حيا ، وقال المدعى عليه : كان ميتا ، كلف كل واحد منهما إقامة البينة على ما ادعاه ، فإن أقام المدعي بينة بحياته عند قطعه حكم بها ، وأجري على المدعى عليه حكم القتل ، وإن أقام المدعى عليه بينة بموته عند قطعه حكم بها ، وبرئ المدعى عليه من القتل .

                                                                                                                                            وإن أقام المدعي بينة بالحياة ، وأقام المدعى عليه بينة بالموت : ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يحكم ببينة الموت : لأنها أزيد علما .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنهما متعارضان : لأن واحدة منهما تقطع بإثبات ما نفته الأخرى ، ولم يكن في إحداهما مع القطع بالشهادة زيادة علم ، فأما إن أقام على الدعوى وعدما البينة ، ففيه قولان : أحدهما : وهو الذي نقله المزني ها هنا ، ونص عليه الشافعي في أكثر كتبه ، وبه قال أبو حنيفة أن القول قول الجاني مع يمينه أنه كان ميتا عند قطعه وهو بريء من قتله إن حلف : لأن الأصل براءة ذمته ، فصار كما لو ادعى الولي أنه مات من سراية جراحته ، وادعى أنه مات من غير جراحته ، كان القول قول الجاني دون الولي اعتبارا ببراءة ذمته .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وتفرد الربيع بنقله .

                                                                                                                                            وقال بعد رواية الأول : وفيه قول آخر أن القول قول الولي مع يمينه أنه كان حيا عند قطعه ، ويؤخذ القاطع بحكم قطعه : لأن الأصل بقاء الحياة حتى يعلم زوالها عند القطع ، واليقين والشك إذا تعارضا سقط حكم الشك باليقين ، كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة ، أو تيقن الطهارة وشك في الحدث ، والفرق بين دعوى الموت ودعوى السراية : أن الولي مستأنف لدعوى السراية فلم يقبل قوله فيها ، والجاني ها هنا مستأنف لدعوى الموت ، فلم يقبل قوله فيها ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية