الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا أمر السلطان بقتل رجل أو قطعه ، اقتص من السلطان : لأنه هكذا يفعل ، ويعزر المأمور " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وقد مضت هذه المسألة في أول كتاب الجنايات ، وهو أن يأمر السلطان رجلا بقتل رجل ظلما ، فقتله المأمور ، لم يخل حاله من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يعتقد أن السلطان محق في قتله ، وأنه لا يرى قتل أحد ظلما ، فعلى السلطان الآمر القود دون المأمور القاتل : لأن المأمور كالآلة لالتزامه طاعة سلطانه ، والسلطان هو القاتل لنفوذ أمره ، ولا تعزير على المأمور : لأنه أطاع فيما ظاهره حق .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون القتل مختلفا في استحقاقه ، كقتل المسلم بالكافر ، [ ص: 88 ] والحر بالعبد ، فيعتقد السلطان الآمر وجوبه ، لما أداه اجتهاده إليه ، ويعتقد المأمور سقوطه كما يعتقده من مذهبه ، فلا قصاص على واحد منهما ، لكن يعزر المأمور : لإقدامه على قتل يعتقد حظره ، وإن سقط القود باجتهاده كالآمر .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون القتل محظورا ودم المقتول محقونا ، والمأمور عالما بظلمه إن قتل ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن لا يكون من الآمر إكراه للمأمور ، فالقود واجب على المأمور دون الآمر : لمباشرته لقتل مظلوم باختياره ، ويعزر الآمر تعزيرا مثله : لأمره بقتل هو مأمور بمنعه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون من الآمر إكراه للمأمور صار به الآمر قاهرا والمأمور مقهورا ، فالقود على الآمر القاهر واجب ، ولا تمنع ولايته من استحقاق القود عليه ، بخلاف ما ذهب إليه بعض من يدعي العلم من إعفاء الولاة من القصاص : لأن لا ينتشر بالاقتصاص منهم فساد ، وهذا خطأ : لأن الحدود والحقوق يستوي فيها الشريف والمشروف ، والوالي والمعزول ، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص من نفسه ، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده ، ولأن أولى الناس بإعطاء الحق من نفسه من يتولى أخذ الحقوق لغيره : لقول الله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [ البقرة : 44 ] ، ويكون القهر من هذا الآمر فسقا ، وهل ينعزل به عن إمامته أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ينعزل : لأن العدالة شرط في عقد إمامته .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا ينعزل به حتى يعزله أهل العقد والحل ، إن أقام على حاله ولم يتب عند استتابته : لأن ولايته انعقدت بهم فلم ينعزل عنها إلا بهم . فأما المأمور المقهور ففي وجوب القود عليه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجب عليه القود : لأنه لا يستحق إحياء نفسه بقتل غيره .

                                                                                                                                            والقول الثاني : لا قود عليه . واختلف أصحابنا في علته ، فذهب البغداديون إلى أن العلة في سقوط القود عنه : أن الإكراه شبهة يدرأ بها الحدود ، فعلى هذا : يسقط القود عنه وتجب الدية عليه ويلزمه نصفها : لأنه أحد قاتلين : لأن الشبهة تدرأ بها الحدود ولا تدفع بها الحقوق . وذهب البصريون إلى أن العلة في سقوط القود عنه أن الإكراه إلجاء وضرورة ، ينقل حكم الفعل عن المباشرة إلى الأمر ، فعلى هذا : لا قود عليه ولا دية . والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية