مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وقال بعض الناس : إذا ، فما أصابه المسلمون من التجار والأسرى في دارهم من حدود الناس بينهم أو لله ، لم تؤخذ منهم ولا الحقوق بالحكم ، وعليهم فيما بينهم وبين الله تعالى تأديتها إلى أهلها . قلت : فلم قتلته ؟ قال : قياسا على دار المحاربين ، يقتل بعضهم بعضا ، ثم يظهر عليهم فلا يقاد منهم . قلت : هم مخالفون للتجار والأسرى في المعنى الذي ذهبت إليه ، خلافا بينا ، أرأيت لو امتنع أهل البغي بدارهم من أن يجري الحكم عليهم ، أندع السابي يتخول المسبى مرقوقا له ؟ قال : نعم ، قلت : أفتجيز هذا في التجار والأسرى في دار أهل البغي ؟ قال : لا . قلت : فلو سبى المحاربون بعضهم بعضا ثم أسلموا قال : لا . قلت : فلو فعل ذلك التجار والأسرى ببلاد الحرب غير مكرهين ولا شبه عليهم ؟ قال : يقتلون . قلت : أيسع قصد قتل التجار والأسرى ببلاد الحرب فيقتلون ؟ قال : بل يحرم . قلت : أرأيت غزانا أهل الحرب فقتلوا منا ثم رجعوا مسلمين ، أيكون على أحد منهم قود ؟ قال : نعم . قلت : ولا يحل لهم في دار الحرب إلا ما يحل لهم في دار الإسلام ؟ قال : لا . قلت : فإذا كانت الدار لا تغير ما أحل لهم وحرم عليهم ، فكيف أسقطت عنهم حق الله وحق الآدميين الذي أوجبه الله عليهم ؟ ثم أنت لا تحل لهم حبس حق قبلهم في دم ولا غيره ، وما كان لا يحل لهم حبسه فإن على الإمام استخراجه عندك في غير هذا الموضع ؟ قال : فأقيسهم بأهل الردة الذين أبطل ما أجابوا . قلت : فأنت تزعم أن أهل البغي يقاد منهم ما لم ينصبوا إماما ويظهروا حكما ، والتجار والأسارى لا إمام لهم ، ولا امتناع ، ونزعم لو قتل أهل البغي بعضهم بعضا بلا شبهة أقدت منهم . قال : ولكن الدار ممنوعة من أن يجري عليهم الحكم . [ ص: 147 ] قلت : أرأيت لو أن جماعة من أهل القبلة محاربين امتنعوا في مدينة حتى لا يجري عليهم حكم ، فقطعوا الطريق ، وسفكوا الدماء ، وأخذوا الأموال ، وأتوا الحدود ؟ قال : يقام هذا كله عليهم . قلت : فهذا ترك معناك . وقلت له : أيكون على المدنيين قولهم : لا يرث قاتل عمد ويرث قاتل خطأ إلا من الدية ؟ فقلت : لا يرث القاتل في الوجهين : لأنه يلزمه اسم قاتل ؛ فكيف لم تقل بهذا في القاتل من أهل البغي والعدل : لأن كلا يلزمه اسم قاتل ، وأنت تسوي بينهما فلا تقيد أحدا بصاحبه ؟ " التجار والأسرى لو تركوا الصلاة والزكاة في دار الحرب ثم خرجوا إلى دار الإسلام ، أيكون عليهم قضاء ذلك ؟
قال الماوردي : وهذا أراد به أبا حنيفة ، فإنه قال : إذا ، لم تقم عليهم الحدود ، ولم تستوف منهم الحقوق . وكذلك يقول في فعل أهل البغي في دارهم ما يوجب حدودا أو حقوقا ، ثم ظهر الإمام عليهم ، لم يؤاخذوا بما استهلكوه من حقوق ، وارتكبوه من حدود . أهل العدل إذا فعلوا ذلك في دار أهل البغي
وبناه على أصله ، أن كان هدرا ، فجمع بين الدارين : لخروجها عن يد الإمام وتدبيره . المسلمين إذا فعلوه في دار الحرب
ومذهب الشافعي : أن دار الحرب يسقط جريان حكم الإسلام فيها على أهلها ، فلا يقام عليهم بعد القدرة حد ، ولا يستو منهم حق ، ولا يسقط جريان حكم الإسلام على من دخلها من المسلمين في استيفاء الحقوق منهم ، وإقامة الحدود عليهم .
ودار البغي لا تمنع من جريان حكم الإسلام فيها على أهلها وغير أهلها : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : منعت دار الإسلام ما فيها ، وأباحت دار الشرك ما فيها .
ففرق بين دار الإسلام وبين دار الشرك في الحظر ، فلم يجز الجمع بينهما في الإباحة .
ولأن حكم الإسلام جار على أهله أين كانوا ، كما أن حكم الشرك جار على أهله حيث وجدوا .
ولأنه لو جاز أن تغير الدار أحكام المسلمين في الحقوق والحدود ، لتغيرت في العبادات من الصلاة والصيام ، فيلتزمونها في دار الإسلام ، ولا يلتزمونها في دار الحرب .
فلما بطل هذا ، واستوى إلزامهم لها في دار الإسلام ودار الحرب ، وجب أن يستويا في الحدود والحقوق .
[ ص: 148 ] فأما ما احتج به أبو حنيفة من أن يد الإمام قد زالت عن دار البغي ، فسقط عنه إقامة الحدود عليهم كأهل الحرب .
فالجواب عنه : أن الحدود وجبت عليهم : لمخاطبتهم بها وارتكابهم لموجبها ، والإمام مستوف لها . فإن عجز عنها كف ، وإن قدر عليها أقامها . والله أعلم .