الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ويحد الرجل أمته إذا زنت : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، يجوز للسيد إقامة الحدود على عبيده وإمائه ، وهو قول الأكثرين . وقال أبو حنيفة : لا يجوز للسيد أن يتولاه ، والإمام أحق بإقامته .

                                                                                                                                            وقال مالك : لا يجوز أن يتولى السيد حد أمته إذا كانت ذات زوج ، ويجوز أن يتولاه في العبد والأمة غير ذات الزوج .

                                                                                                                                            واستدلوا بأنه من حدود الله تعالى فوجب أن يكون الأئمة أحق بإقامته ، قياسا على حد الحر : ولأن من لا يملك إقامة الحد على الحر لم يملك إقامته على العبد كالصغير [ ص: 245 ] والمجنون ، ولأن من لا يملك إقامة الحد بالبينة ، لم يملك إقامته بالإقرار كالأجنبي ، ولأنه حد لا يملك السيد إقامته عليه بعد عتقه ، فلم يملك إقامته عليه في حال رقه كالقطع في السرقة .

                                                                                                                                            ودليلنا : رواية علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وهذا نص .

                                                                                                                                            فإن قيل : يعني بإذن الإمام . ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : إن إطلاقه يمنع من هذا التقييد .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يسقط فائدة الخبر : لأن الإمام لو أذن لغير السيد جاز .

                                                                                                                                            وروى الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل بوليدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله إن جاريتي زنت . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجلدها خمسين ، فإن عادت فعد ، وإن عادت فعد ، وفي الرابعة : فإن عادت فبعها ولو بحبل من شعر .

                                                                                                                                            وروى إسماعيل بن أمية ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها ، فليجلدها الحد ولا يثرب ، فإن عادت فزنت فتبين زناها ، فليبعها ولو بعقد من شعر ومعنى لا يثرب : أن لا يعير . فإن قيل : فلم نهاه عن تعييرها والتثريب عليها وهو أبلغ في الزجر ؟ فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه نهاه عن الاقتصار عليه دون الحد .

                                                                                                                                            والثاني : أن التعيير والتثريب تعزير يسقط مع الحد .

                                                                                                                                            فإن قيل : يحمل ما أمر به من الجلد على التعزير دون الحد . فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن إطلاق الحد يخرج عن حكم التعزير .

                                                                                                                                            والثاني : أن الحد يسقط بالتعزير ، ولأنه إجماع الصحابة .

                                                                                                                                            روى حسن بن محمد أن فاطمة عليها السلام جلدت أمة لها . . . الحديث .

                                                                                                                                            وروي أن عائشة رضي الله عنها قطعت جارية لها سرقت .

                                                                                                                                            [ ص: 246 ] وروي أن حفصة رضي الله عنها قتلت جارية لها سحرتها .

                                                                                                                                            وروى نافع أن عبد الله بن عمر قطع يد غلام له سرق . وروي أن أبا بردة جلد وليدة له زنت .

                                                                                                                                            وروي أن مقرنا سأل ابن مسعود عن أمة له زنت ، فقال : اجلدها .

                                                                                                                                            وروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن أبيه ، قال : كان الأنصار عند رأس الحول يخرجون من زنا من إمائهم فيجلدونهم في مجالسهم ، ولا يعرف لهم مخالف ، فثبت أنه إجماع .

                                                                                                                                            ومن القياس : أن للإمام حق الولاية ، وللسيد حق الملك ، فيجمع بينهما إحدى علتين :

                                                                                                                                            إحداهما : أن كل من ملك تزويجها مع اختلاف الدينين ملك حدها كالإمام .

                                                                                                                                            والثانية : أن كل من ملك الإقرار عليه بجناية الخطأ في رقبته ، ملك إقامة الحد على يديه كالإمام ، ولأن تصرف السيد في عبده أعم ، وعقوده فيه أتم من الإمام المتفرد بنظر الولاية ، فكان بإقامة الحد أحق . وخالف الأجنبي الذي لا نظر له فيه ولا حق ، وخالف الحر الذي لا ولاية له إلا للإمام ، وخالف الصبي والمجنون لثبوت الولاية عليهما ، فلم تصح الولاية منهما . وسنذكر في حكم البينة والسرقة في شرح المذهب ما يكون جوابا وانفصالا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية