ولما رجع خالد بن الوليد من العزى بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول شوال وهو بمكة سرية إلى بني جذيمة من كنانة وكانوا أسفل من مكة على ليلة منها ناحية يلملم في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار ، ومن بني سليم داعيا إلى الإسلام ، ولم يبعثه مقاتلا ، فلما انتهى إليه قال : ما أنتم ؟ قالوا : مسلمون قد صدقنا بمحمد ، وصلينا وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذنا فيها ، فقال : ما بالكم بالسلاح ؟ قالوا : خفنا [ ص: 69 ] أن تكونوا عدوا ، قال : استأسروا ، فاستأسروا وفرقهم على أصحابه ، فلما كان في السحر أمرهم بقتلهم ، فأما بنو سليم فقتلوا كل من كان في أيديهم .
وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا كل من كان في أيديهم ، وبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : خالد ، وأنفذ اللهم إني أبرأ إليكم مما صنع علي بن أبي طالب بديات القتلى ويسمى هذا اليوم يوم الغميصاء ، فأما من أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله من الرجال والنساء فابن خطل تعلق بأستار الكعبة ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : فقتله اقتلوه حيث وجدتموه سعيد بن حريث وأبو برزة الأسلمي .
وأما مقيس بن صبابة قتله نميلة بن عبد الله ، وهو في قومه .
وأما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب .
وأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشفع له فصمت طويلا ، ثم شفعه فيه وكان أحد الأنصار قد نذر أن يقتله ، فأخذ قائم سيفه وانتظر أن يؤذن له في قتله ، فلما ولى قال للأنصاري : ، وأما هلا وفيت بنذرك ، قال : انتظرت أن تومئ إلي بعينك فقال : الإيماء خيانة ، وليس لنبي أن تكون له خائنة الأعين عكرمة بن أبي جهل فإنه هرب إلى اليمن ، أسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمنه فخرجت إليه ، فقدمت به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما هند فأمنها وبايعها .
وأما سارة فاستؤمن لها فأمنها ، وأما بنتا ابن خطل : فقتلت إحداهما ، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها ، فأمنها وبقيت حتى أوطأها رجل من المسلمين فرسا بالأبطح في زمان عمر فقتلها .
وهرب صفوان بن أمية إلى جدة ليركب منها إلى اليمن ، فاستأمن له عمير بن وهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمنه ، وأعطاه عمامته ، فخرج إليه وأقدمه محمد ، هذا يزعم أنك قد أمنتني قال : نعم قال : فاجعلني في أمري بالخيار شهرين قال : أنت فيه بالخيار أربعة أشهر ، وهرب فقال : يا هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، وكان زوج إلى أم هانئ بنت أبي طالب نجران ، وهرب إليها عبد الله بن الزبعرى .
فأما هبيرة فأقام بها كافرا حتى مات .
وأما ابن الزبعرى فإن حسان بن ثابت رماه إلى نجران ببيت واحد فما زاده عليه فقال :
[ ص: 70 ]
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه نجران في عيش أحذ لئيم
فجاء مسلما قال :يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الر يح ومن مال ميله مثبور
آمن اللحم والعظام لربي ثم نفسي الشهيد أنت النذير
إنني عنك زاجر ثم حي من لؤي فكلهم مغرور
فكانت هذه سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة ، فاختلف العلماء مع نقل هذه السيرة فذهب هل فتحها عنوة أو صلحا ؟ الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة إلى أنه فتحها عنوة بالسيف ثم أمن أهلها .
وذهب الشافعي ومجاهد إلى أنه فتحها صلحا بأمان عقده بشرط ، فلما وجد الكف لزم الأمان والعقد الصلح .
والذي أراه على ما يقتضيه نقل هذه السيرة أن أسفل مكة دخله خالد بن الوليد عنوة : لأنه قوتل فقاتل وقتل ، وأعلى مكة دخله الزبير بن العوام صلحا لأنهم كفوا والتزموا شرط أبي سفيان ، فكف عنهم الزبير ، ولم يقتل منهم أحدا ، فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستقر بمكة التزم أمان من لم يقاتل ، واستأنف أمان من قاتل : فلذلك استجار رجلان من بأم هانئ بنت أبي طالب أهل مكة ، فدخل عليها علي بن أبي طالب ليقتلهما ، فمنعته وأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال : ، ولو كان الأمان عاما لم يحتاجا إلى ذلك ، ولو لم يكن أمان لكان كل الناس كذلك . قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ