[ ص: 87 ] فصل : [ ] حجة الوداع
ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع ، وسميت بذلك لأنه ودع فيها الناس .
وسميت : حجة البلاغ ؛ لأنه بلغ أمته فيها ما تضمنته خطبته ، وسميت : حجة التمام ؛ لأنه بين تمامها وأراهم مناسكها ، وسميت : حجة الإسلام ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد فرض الحج غيرها .
وقيل : لم يحج بعد النبوة غيرها .
وحكى مجاهد أنه حج قبل الهجرة حجتين ، ورواه جابر بن عبد الله ، فصارت حججه ثلاثا في روايتهما ، فخرج لها من المدينة في يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، فصلى فيه بذي الحليفة الظهر مقصورة ركعتين ، وأحرم منها وخرج بجميع نسائه في الهوادج ، فاختلف في إحرامه .
فروى خمسة من أصحابه أنه أفرد الحج .
وروى عنه أربعة أنه قرن .
وروى عنه ثلاثة أنه تمتع وساق مائة بدنة هديا مقلدا مشعرا ودخل مكة في يوم الاثنين الرابع من ذي الحجة من أعلى كداء . وقيل : بل دخلها في يوم الثلاثاء نهارا ، ودخل المسجد من باب بني شيبة ، وطاف بالبيت سبعا مبتدئا من الحجر الأسود ، ورمل في ثلاثة أشواط منها واضطبع بردائه في جميعها ، وصلى خلف المقام ركعتين ، وسعى بين الصفا والمروة سبعا ، وكان قد اضطرب بالأبطح ، فرجع إلى منزله ، فلما كان قبل يوم التروية بيوم ، خطب بمكة بعد الظهر وبات بها ، وخرج في يوم التروية إلى منى ، وبات بها ، وغدا من الغد إلى عرفات ، وصلى في مسجد إبراهيم ، ووقف بالهضاب من عرفات ، وقال : عرفة موقف ، إلا بطن عرنة ، فوقف بها على راحلته ، فلما غربت الشمس دفع منها إلى كل مزدلفة ، يسير العنق فإذا وجد فجوة نص وجمع بمزدلفة بين المغرب وعشاء الآخرة ، في وقت عشاء الآخرة بأذان وإقامتين ، وبات بها ، وأخذ منها حصى جماره .
[ ص: 88 ] وسار منها إلى منى ليصلي صلاة الفجر ، وقدم الذرية والنساء قبل الفجر ، ووقف على قزح راكبا ، وأوضع السير في وادي محسر ، ودخل منى ، فرمى جمرة العقبة قبل الزوال ، ونحر ، وحلق ، وأخذ من شاربه وعارضيه ، وقلم أظفاره ، واقتسم شعره أصحابه ، وأمر بدفن ما بقي من شعره وأظفاره ، وتطيب ولبس قميصا ، وأمر مناديه فنادى بمنى " " وقال للناس : إنها أيام أكل وشرب وبعال فلا تصوموا ، ونحر بيده من هديه نيفا وستين بدنة ، ودفع الحربة إلى خذوا عني مناسككم علي فنحر باقيها ، وقال : علي وجعفر . ائتوني من كل بدنة ببضعة فطبخت فأكل منها وأكل معه
ثم سار إلى مكة فطاف بالبيت طواف الإفاضة . قال طاوس : وطاف راكبا على راحلته ، ودخل البيت فصلى فيه ركعتين بين العمودين ، وأتى زمزم فشرب منها ، ونفل وشرب من سقاية العباس ، وسعى ، وعاد إلى منى فصلى بها الظهر وجميع الصلوات ، وخطب بمنى بعد الظهر على ناقته القصوى بين الجمرات ، وتداولها الرواة ، وذكرها الطبري في تاريخه ، وأوردها الجاحظ في كتاب البيان .
وقال : الحمد الله ، نحمده ، ونستعينه ، ونؤمن به ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثكم على العمل بطاعته ، وأستفتح الله بالذي هو خير .
أما بعد :
أيها الناس ، استمعوا مني أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، في موقفي هذا ، أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، اللهم فاشهد ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ، ولكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله أنه لا ربا ، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب .
وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وأول دم وضع دم عامر بن أبي ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ، والعمد قود ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ، وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية ، أيها الناس ، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ، مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم ، أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله [ التوبة : 37 ] . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم [ ص: 89 ] خلق الله السماوات والأرض إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم [ التوبة : 36 ] . ثلاثة متواليات ، وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب ، فهو الذي بين جمادى وشعبان ألا هل بلغت اللهم فاشهد .
أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حقا ، ألا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم ، ولا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن ، وتهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا .
أيها الناس : إنما المؤمنون إخوة ، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلموا أنفسكم ، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض : فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا : كتاب الله ، ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
أيها الناس : إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد كلكم من آدم ، وآدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم ، قال : فليبلغ الشاهد الغائب .
أيها الناس : إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ، من ادعى إلى غير أبيه ، ومن تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا .
أيها الناس : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم حبشي مجدع ، ما أقام فيكم كتاب الله ، أرقاءكم أرقاءكم ، أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، فإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ، ولا تعذبوهم ، ألا هل بلغت ؟ ألا يبلغ الشاهد منكم الغائب : فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له ممن سمعه ، والسلام عليكم ورحمة الله .
وحكى ابن إسحاق أن هذه الخطبة كانت بعرفة ، وكان المبلغ لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربيعة بن أمية بن خلف ، فيجوز أن يكون خطبها في الموضعين ؛ زيادة في الإبلاغ .
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردف في حجه هذا ثلاثة ، أردف أسامة بن زيد من عرفة إلى مزدلفة ، وأردف الفضل بن العباس من مزدلفة إلى منى ، وأردف معاوية بن أبي سفيان من منى إلى مكة .
[ ص: 90 ] قال الشعبي : ونزلت على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] . وهو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم ، واضمحل الشرك ، وهدمت منابر الجاهلية ولم يطف بالبيت عريان .
وفي هذه السنة قدم جرير بن عبد الله البجلي المدينة مسلما في شهر رمضان .
فأما ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة فأربع عمر .
وفي هذه السنة أسلم من باليمن فيروز الديلمي ، وباذان ، ووهب بن منبه ، وكان في هذه السنة سريتان .