الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 94 ] [ وصايا سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ]

                                                                                                                                            أما وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروى ابن أبي عون ، عن ابن مسعود قال : نعى لنا نبينا نفسه قبل موته بشهر ، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة ، وقال : مرحبا بكم حياكم الله بالسلام ، رحمكم الله ، حفظكم الله ، جبركم الله ، رزقكم الله ، وقاكم الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأوصي الله بكم ، وأستخلف عليكم ، وأحذركم الله ، إني لكم منه نذير مبين ، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده ، فإنه قال لي ولكم : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 83 ] ، وقال : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين [ العنكبوت : 68 ] قلنا : يا رسول الله ، متى أجلك ؟ قال : دنا الفراق ، والمنقلب إلى الله ، وإلى جنة المأوى ، وإلى سدرة المنتهى ، وإلى الرفيق الأعلى قلنا : يا رسول الله : من يغسلك ؟ قال : رجال من أهلي الأدنى فالأدنى ، قلنا : يا رسول الله ، ففيم نكفنك ؟ قال في ثيابي هذه إن شئتم ، أو ثياب حضر أو حلة يمانية ، قلنا : يا رسول الله من يصلي عليك ؟ وبكينا وبكى فقال : مهلا رحمكم الله ، وجزاكم عن نبيكم خيرا ، إذا أنتم غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري هذا على شفير قبري ، في بيتي هذا ، ثم اخرجوا عني ساعة ، فإن أول من يصلي علي حبيبي وخليلي جبريل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ثم ملك الموت معه جنود من الملائكة ، ثم ادخلوا علي فوجا فوجا . فصلوا علي وسلموا تسليما ، ولا تؤذونني بباكية ، واقرءوا السلام على من غاب من أصحابي ، واقرءوا السلام على من تبعني على ديني من قومي هذا إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                            وروى أنس بن مالك قال : كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يغرغر بنفسه ، الصلاة وما ملكت أيمانكم .

                                                                                                                                            وروى عمر بن عبد العزيز قال : كان آخر ما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : قاتل الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب .

                                                                                                                                            وروى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاث وهو يقول : ألا لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله .

                                                                                                                                            [ ص: 95 ] ودخل الفضل بن العباس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه فقال : يا فضل ، شد هذه العصابة على رأسي ، ونهض على يده حتى دخل المسجد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم ، وإنما أنا بشر ، فأيما رجل أصبت من عرضه شيئا فهذا عرضي فليقتص ، وأيما رجل أصبت من بشره شيئا فهذا بشري فليقتص ، وأيما رجل أصبت من ماله شيئا فهذا مالي فليأخذ ، واعلموا أن أولاكم بي رجل كان له من ذلك شيء فأخذه أو حللني ، فلقيت ربي وأنا محلل ، ولا يقولن رجل : إني أخاف العداوة والشحناء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهما ليسا من طبيعتي ولا خلقي ، فقام رجل فقال : يا رسول الله لي عندك ثلاثة دراهم فقال : أما أنا فلا أكذب قائلا ، ولا مستحلفه على يمين ، فيم كانت لك عندي ؟ قال : أما تذكر أنه مر بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم ، قال : صدق ، أعطها إياه يا فضل .

                                                                                                                                            وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه هذا : يا عباس بن عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد ، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بني عبد مناف ، اعملوا لما عند الله : إني لا أغني عنكم من الله شيئا ، سلوني ما شئتم ، فلما حل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموت قال : يا نفس ما لك تلوذين كل ملاذ ، وكان عنده قدح فيه ماء فكان يدخل يده فيه ويمسح بها وجهه ثم يقول : اللهم أعني على سكرات الموت ثم مات - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجر عائشة ، قالت عائشة : مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وفي بيتي ودولتي ولم أظلم فيه أحدا .

                                                                                                                                            وقال علي بن أبي طالب - عليه السلام - : مات وقد أسندته إلى صدري ، ووضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة . قال كعب : كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا ، وعليه يبعثون ، ثم سجي ببرد حبرة .

                                                                                                                                            وكان بدء مرضه يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر ، وقيل : لليلة بقيت منه .

                                                                                                                                            ومات يوم الاثنين ، الثاني عشر من شهر ربيع الأول حتى زاغت الشمس ، وهو مثل اليوم الذي دخل فيه إلى المدينة مهاجرا : لأنه دخلها في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول .

                                                                                                                                            وقال ابن عباس : ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، ونبئ يوم الاثنين ، ورفع الحجر يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين . فكان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما ، ونزل على حاله مسجى لم يدفن في بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ، ودفن في آخره ، وقيل : في الليل بعد أن ربا قميصه . قال القاسم بن محمد : واخضرت أظفاره ، وكان له يوم مات في رواية الجمهور ثلاث وستون سنة ، أقام منها بالمدينة بعد هجرته إليها عشر سنين يخرج فيها إلى غزواته ويعود [ ص: 96 ] إليها ، وحضر غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة : علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد ، فتفرد علي بغسله ، وكان العباس يستر عليه الثوب وكان الفضل يناوله الماء ، وكان أسامة يتردد إليهم بالماء ، ولما أرادوا نزع قميصه لغسله ، سمعوا هاتفا يقول ، يسمعون صوته ولا يرون شخصه : غسلوه في قميصه الذي مات فيه ولا تنزعوه عنه ، فغسل فيه ، وكفن في ثلاثة أثواب بيض غلاظ يمانية سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ، وحنط وكان في حنوطه مسك .

                                                                                                                                            ولما فرغ من إكفانه ، ووضع على سريره ، ودخل الناس فصلوا عليه أفواجا ، لا يؤمهم أحد : لأنه كان إمام الأمة حيا وميتا ، فكان أول من دخل للصلاة عليه بنو هاشم ، ثم المهاجرون ، ثم الأنصار ، ثم من بعدهم من الرجال ، ثم النساء ، ثم الصبيان .

                                                                                                                                            ودخل أبو بكر وعمر ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، وسلم الناس كما سلما ، ثم قالا : إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل الله جملة إليه . ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمات ربه ، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه ، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه : فإنه كان بالمؤمنين رءوفا رحيما لا نبتغي بالإيمان بدلا ، ولا نشتري به ثمنا أبدا ، فقال الناس : آمين آمين وتفرقوا .

                                                                                                                                            ثم دخل بعدهم فوج بعد فوج ، وابتدأ الناس بالصلاة عليه من حين زاغت الشمس من يوم الاثنين إلى أن زاغت الشمس من يوم الثلاثاء ، واختلفوا في موضع قبره فقال قائل عند المنبر .

                                                                                                                                            وقال قائل : حيث كان يصلي بالناس .

                                                                                                                                            وقال قائل : يدفن مع أصحابه بالبقيع ، فقال أبو بكر : ادفنوه حيث قبضه الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض : فرفع فراشه الذي مات عليه فدفن تحته .

                                                                                                                                            وكانت عائشة قالت لأبي بكر : إني رأيت في المنام كأن ثلاثة أقمار سقطن في حجرتي ، فلما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرتها قال لها أبو بكر : هذا أحد أقمارك وهو خيرها .

                                                                                                                                            واختلفوا في حفر قبره لحدا كأهل المدينة أو ضريحا كأهل مكة ، وكان أبو طلحة يلحد ، وأبو عبيدة بن الجراح يضرح ، فأنفذ العباس رجلين أحدهما إلى أبي طلحة والآخر إلى أبي عبيدة ، وقال : اللهم خر لنبيك فسبق مجيء أبي طلحة ، فحفر له لحدا فأخذ به الشافعي في الاختيار .

                                                                                                                                            وقد روى جرير بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اللحد لنا ، والشق لغيرنا .

                                                                                                                                            [ ص: 97 ] ونزل إلى قبره أربعة ، اثنان متفق عليهما ، وهما علي بن أبي طالب ، والفضل بن العباس ، واثنان مختلف فيهما ، فروي أنهما العباس ، وعبد الرحمن بن عوف .

                                                                                                                                            وروي أنهما : قثم بن العباس وأسامة بن زيد .

                                                                                                                                            ونصب اللبن على لحده ، وبسط تحته قطيفة حمراء كان يلبسها .

                                                                                                                                            وقيل : بل ألقيت في قبره فوق لحده ألقاها غلام كان يخدمه - صلى الله عليه وسلم - فقال ، صلى الله عليه وسلم : لا يلبسها بعدي أحد أبدا فتركت على حالها في القبر ، ولم تخرج منه ، وجعل بين قبره وبين حائط القبلة نحو سوط .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية