الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن فرض الجهاد ترتب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأحوال الأربعة ، فقد كان في ابتداء فرضه مخصوص الزمان والمكان ، فأما مخصوص زمانه ففيما [ ص: 109 ] عدا الأشهر الحرم : لأن العرب كانت تحرم القتال في الأشهر الحرم : لينتشروا فيها آمنين قال الله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم [ التوبة : 36 ] . وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب . قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : ثلاثة سرد وواحد فرد ، وكانوا يحرمون القتال في الحرم فقال الله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ العنكبوت : 67 ] . فأثبت الله تعالى في ابتداء فرض الجهاد تحريم القتال في الأشهر الحرم ، وتحريم القتال في الحرم ، فقال في تحريم القتال في الأشهر الحرم : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] . فحرم الله تعالى القتال فيها على العموم ابتداء ومقابلة ، ثم أباح الله تعالى فيها قتال من قاتل ولم يبح قتال من لم يقاتل ، فقال تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص [ البقرة : 194 ] . وسبب ذلك ما حكاه الحسن البصري : أن مشركي العرب قالوا لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أنهيت يا محمد عن قتالنا في الشهر الحرام ؟ فقال : نعم ، فأرادوا أن يقاتلوه في الشهر الحرام ، فأنزل الله تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام أي : إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام ، فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم .

                                                                                                                                            وفي قوله تعالى : والحرمات قصاص تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : في انتهاك الحرمات وجوب القصاص .

                                                                                                                                            والثاني : في وجوب القصاص حفظ الحرمات ، ثم أباح الله تعالى فيها قتال من قاتل وقتال من لم يقاتل فقال تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله [ البقرة : 217 ] . فأعلمهم أن حرمة الدين أعظم من حرمة الشهر الحرام ، ومعصية الكفر أعظم من معصية القتال ، فصار لتحريم القتال في الأشهر الحرم ثلاثة أحوال : الأولى تحريمه فيها لمن قاتل ولم يقاتل .

                                                                                                                                            والثانية : أنه أبيح فيها قتال من قاتل دون من لم يقاتل .

                                                                                                                                            والثالثة : أنه أبيح فيها قتال من قاتل ومن لم يقاتل .

                                                                                                                                            وقال عطاء : هذه الحالة الثالثة غير مباحة ، وأنه لا يستباح فيها إلا قتال من قاتل دون من لم يقاتل : وهذا خطأ لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما ذكره الله تعالى من تعليل الإباحة بقوله : والفتنة أكبر من القتل ، وهذا تعليل عام فوجب أن تكون الإباحة عامة .

                                                                                                                                            والثاني : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقد بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة ، [ ص: 110 ] وهو من الأشهر الحرم . وأما الحرم فقد كان القتال فيه حراما على عموم الأحوال ؛ لقول الله تعالى : ومن دخله كان آمنا ، ثم أباح الله تعالى فيه قتال من قاتل دون من لم يقاتل فقال : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم [ البقرة : 191 ] . ثم أباح الله تعالى فيه قتال من قاتل ومن لم يقاتل بقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ البقرة : 193 ] وبقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] . وقال : واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم [ البقرة : 191 ] . فصار لتحريم القتال في الحرام ثلاثة أحوال

                                                                                                                                            الأولى : تحريمه فيه لمن قاتل ومن لم يقاتل .

                                                                                                                                            الثانية : إباحته لمن قاتل دون من لم يقاتل .

                                                                                                                                            والثالثة : إباحته لمن قاتل ومن لم يقاتل .

                                                                                                                                            وقال مجاهد : هذه الحال الثالثة غير مباحة ، ولا يستبيح فيه إلا قتال من قاتل دون من لم يقاتل ، وهذا خطأ من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل أهل مكة عام الفتح مبتدئا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قاتل فيه أهل المعاصي فكان تطهير الحرم منهم أولى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية