الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " في كتاب حكم أهل الكتاب : وإنما تركنا قتل الرهبان اتباعا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال في كتاب السير : ويقتل الشيوخ والأجراء والرهبان ، قتل دريد بن الصمة ابن خمسين ومائة سنة في شجار لا يستطيع الجلوس فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - : فلم ينكر قتله ( قال : ) ورهبان الديات والصوامع والمساكن سواء : ولو ثبت عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - خلاف هذا لأشبه أن يكون أمرهم بالجد على قتال من يقاتلهم ، ولا يتشاغلون بالمقام على الصوامع عن الحرب ، كالحصون لا يشغلون بالمقام بها عما يستحق النكاية بالعدو ، وليس أن قتال أهل الحصون حرام ، وكما روي عنه أنه نهى عن قطع الشجر المثمر : ولعله لأنه قد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع على بني النضير ، وحضره يترك ، وعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدهم بفتح الشام ، فترك قطعه لتبقى لهم منفعته إذا كان واسعا لهم ترك قطعه ( قال المزني ) - رحمه الله - : هذا أولى القولين عندي بالحق : لأن كفر جميعهم واحد ، وكذلك سفك دمائهم بالكفر في القياس واحد " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وجملة المشركين بعد الظفر بهم ينقسم أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : المقاتلة أو من كان من أهل القتال وإن لم يقاتل فهو من المقاتلة ، ويجوز قتلهم على ما قدمناه من خيار الإمام فيهم .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : وهم أهل الرأي والتدبير منهم دون القتال ، فيجوز قتلهم أيضا شبانا كانوا أو شيوخا ، قدروا على القتال أو لم يقدروا : لأن التدبير علم بالحرب ، والقتال عمل ، والعلم أصل للعمل ، وقد أفصح المتنبي حيث قال :


                                                                                                                                            الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني

                                                                                                                                            ولأن التدبير أنكى وأضر وهو من الشيخ أقوى وأصح ، هذا دريد بن الصمة أشار على هوازن يوم حنين أن يتجردوا للقتال ، ولا يخرجوا معهم الذراري ، فخالفه مالك بن عوف النضري وخرج بهم فهزموا فقال دريد في ذلك :

                                                                                                                                            [ ص: 193 ]

                                                                                                                                            وأمرتهم أمري بمنعرج اللوى     فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

                                                                                                                                            وظفر بدريد وكان في شجار وهو ابن مائة وخمسين سنة ، وقيل : مائة وخمس وستين ، فقتل ، وقيل : ذبح ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراه فلم ينه عنه : فدل على إباحة قتل ذوي الآراء وإن كانوا شيوخا .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : من الذراري من النساء والأطفال ، فلا يجوز أن يقتلوا في المعركة إلا أن يقاتلوا فيقتلوا دفعا لأذاهم ، فأما بعد الأسر فلا يجوز أن يقتلوا ، سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لنفي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والذراري والولدان ، ولأنهم سبايا مسترقون قد ملكهم الغانم كالأموال .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : من اعتزل القتال والتدبير من رجالهم ، إما لعجز كالزمني وذوي الهرم من الشيوخ ، وإما لتدين كالرهبان ، وأصحاب الصوامع والديارات ، شبابا كانوا أو شيوخا ، ففي إباحة قتلهم قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : قاله في كتاب حكم أهل الكتاب لا يجوز قتلهم ، وهو مذهب أبي حنيفة لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اقتلوا الشرخ واتركوا الشيخ ، الشرخ : الشباب ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                            على شرخ الشباب تحية     فإذا لقيت ددا فقط من دد

                                                                                                                                            والدد : اللهو واللعب ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لست من دد ولا دد مني وروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : انطلقوا بسم الله ، وعلى ملة رسول الله ، لا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا ، ولا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وخيموا غنائمكم ، وأحسنوا ، إن الله يحب المحسنين .

                                                                                                                                            وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال لزياد بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وشرحبيل بن حسنة لما بعثهم إلى الشام : أوصيكم بتقوى الله ، اغزوا في سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تفسدوا في الأرض ، ولا تعصوا ما تؤمرون ، ولا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ ، وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم على الصوامع فدعوهم ، وما حبسوا له أنفسهم ، وستجدون أقواما اتخذ الشيطان في أوساط رءوسهم أفحاصا ، فإذا وجدتموهم فاضربوا أعناقهم ، والأفحاص أن يحلقوا أوساط رءوسهم يقال لهم : الشمامسة ، ذكره أبو عبيدة ، ولأن من لم يقاتل في الغزو لم يقتل في الأسر كالذراري .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : نص عليه في سير الواقدي واختاره المزني ، يجوز أن يقتلوا لعموم قول الله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] .

                                                                                                                                            [ ص: 194 ] وروى الحسن البصري ، عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اقتلوا شيوخ أهل الكتاب واستحيوا شرخهم ، يعني استبقوا شبابهم أحياء ومنه قوله تعالى : يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم [ القصص : 4 ] . فأمر بقتل الشيوخ واستبقاء الشباب لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا نفع في قتل الشيوخ ، وفي الشباب نفع .

                                                                                                                                            والثاني : أن رجوع الشباب عن كفره أقرب من رجوع الشيخ ، ويحتمل أن يريد بالشرخ غير البالغين وهو أشبه : لأن من كان من أهل القتال جاز قتله ، وإن قعد عن القتال كالمقاتل ، ولأن من استحق سهما إذا كان مسلما جاز قتله وإذا كان كافرا كالمقاتل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية