الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وكان أهل الكتاب - المشهور عند العامة - أهل التوراة من اليهود والإنجيل من النصارى وكانوا من بني إسرائيل ، وأحطنا بأن الله تعالى أنزل كتبا من التوراة والإنجيل والفرقان بقوله تعالى : أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ، وقال تعالى وإنه لفي زبر الأولين ، فأخبر أن له كتابا سوى هذا المشهور ، قال : فأما قول أبي يوسف : لا تؤخذ الجزية من العرب ، فنحن كنا على هذا أحرص ، ولولا أن نأثم بتمني باطل لوددناه كما قال ، وأن لا يجري على عربي صغار ، ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما حكم الله به تعالى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح : إذا ثبت أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب دون غيرهم ، فالكتاب المشهور كتابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن التوراة أنزلت على موسى ، ودان بها اليهود ، والإنجيل أنزل على عيسى ، ودان به النصارى .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا بالأنعام : 156 ] . فكان اليهود والنصارى أهل كتاب مقطوع بصحته ، فأما غير التوراة والإنجيل من كتب الله المنزلة على أنبيائه ، فقد أخبر الله تعالى بها ، وإن لم يسمها ، ولم يعين من دان بها .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى [ النجم : 36 ، 37 ] .

                                                                                                                                            وقال تعالى : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ، [ الأعلى : 18 ، 19 ] وقال : وإنه لفي زبر الأولين ، [ الشعراء : 196 ] .

                                                                                                                                            فإن عرفنا من كتب الله تعالى غير التوراة والإنجيل ، وعرفنا من دان بها غير اليهود والنصارى ، فقد اختلف أصحابنا هل يكونون أهل كتاب يقرون عليه بالجزية ، وتنكح نساؤهم ، وتؤكل ذبائحهم كاليهود والنصارى ، أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم أهل كتاب يقرون على التدين به ، وتؤخذ جزيتهم ، وتنكح نساؤهم ، وتؤكل ذبائحهم كاليهود والنصارى ، وهو الظاهر من مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            وبه قال أبو إسحاق المروزي : لأن حرمة الكتاب لنزوله من الله تعالى ، وحرمة

                                                                                                                                            [ ص: 288 ] من دان به أنه كان على حق ، فكان كتابهم مساويا للتوراة والإنجيل ، وكانوا هم مساوين لليهود والنصارى ، كما كانت التوراة والإنجيل في أيام موسى وعيسى مساويين للقرآن في نزوله على محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان اليهود والنصارى في أيامها مساوين للمسلمين ، وليس التفاضل بينهم بمانع من التساوي في الحق .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنهم لا يقرون على كتابهم ، ولا تقبل جزيتهم ، ولا تنكح نساؤهم ، فيكونون مخالفين لليهود والنصارى في تمسكهم بالتوراة والإنجيل : لأن الله تعالى لما رفعها بعد نزولها دل على ارتفاع حكمها ، فزوال حرمتها ، ولما بقى التوراة والإنجيل دل على بقاء حكمهما وثبوت حرمتهما ، وإطلاق هذين الجوابين عندي غير صحيح ، فالواجب اعتبار كتابهم ، فإن كان يتضمن تعبدا وأحكاما يكتفي أهله به عن غيره كان كالتوراة والإنجيل في ثبوت حرمته وإقرار أهله .

                                                                                                                                            وإن لم يتضمن تعبدا وأحكاما ، وكان مشتملا على مواعظ وأمثال يفتقر أهله في التعبد والأحكام إلى غيره كان مخالفا لحرمة التوراة والإنجيل ولم يجز أن يقر أهله عليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية