الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 41 ] فصل : فأما شهادة الأعمى فيما يدرك بالسمع والبصر من العقود والإقرار ، فمردودة عندنا وغير مقبولة ، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب عليه السلام ، ومن التابعين الحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، ومن الفقهاء سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وصاحباه ، وسوار بن عبد الله القاضي من فقهاء البصرة ، وأكثر فقهاء الكوفة .

                                                                                                                                            وقال مالك : تقبل فيه شهادة الأعمى إذا عرف المشهود عليه بصوته الذي عرفه به على قديم الوقت وحديثه ، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عباس ، ومن التابعين شريح ، وعطاء ، والزهري ، ومن الفقهاء الليث بن سعد ، وابن أبي ليلى ، وداود ، وابن جرير الطبري ، وحكي ذلك عن المزني ، استدلالا بقول الله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ البقرة : 282 ] . فكان على عمومه في البصير والأعمى ، ولأن نبي الله شعيبا قد كان أعمى ، وقد نبه عليه قوله تعالى وإنا لنراك فينا ضعيفا [ هود : 91 ] . أي : ضريرا ، ولولا رهطك لرجمناك [ هود : 91 ] . أي : قومك ، وقال بعضهم أي : شيبتك البيضاء ، لأنه قد يحتشم لأجل الشيبة كما يحتشم لأجل رهطه ، فلما لم يمنع العمى من الشهادة على الله تعالى بالنبوة ، فأولى أن لا يمنع من الشهادة على المخلوقين بالأموال .

                                                                                                                                            ولأن من صح أن يتحمل الشهادة في الأنساب والأملاك ، صح أن يتحملها في العقود والإقرار ، كالبصير .

                                                                                                                                            ولأن الشهادة إذا افتقرت إلى حاسة لم يعتبر فيها حاسة أخرى ، لأن الأفعال لما افتقر فيها إلى البصر لم يعتبر فيها السماع ، والأنساب لما افتقرت إلى السماع لم يعتبر فيها البصر ، فوجب إذا افتقرت العقود إلى السماع أن لا يعتبر فيها المشاهدة ، لأن أصول الشهادة تمنع من الجمع بين حاستين ، ولأن الصور تختلف والأصوات تختلف ، فلما لم يمنع اختلاف الصور من الشهادة ، لم يمنع اختلاف الأصوات من الشهادة بها . ولأن الصوت يدل على معرفة المصوت كما يستدل الأعمى بصوت زوجته على إباحة الاستمتاع بها ، وكما يستدل بصوت المحدث على سماع الحديث منه وروايته عنه ، كذلك يستدل بصوت العاقد والمقر على جواز الشهادة عليهما وقد سمعت الصحابة الحديث من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن من وراء حجاب ، ولم تكن المشاهدة مع معرفة الصوت معتبرة .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير [ فاطر : 35 ] . فكان على عمومه إلا ما خصه دليل ، وقال تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الإسراء : 36 ] ، فجمع في العلم بين السمع [ ص: 42 ] والبصر في الإدراك ، وضم الفؤاد إليها في الإثبات ، فدل على استقرار العلم بجميعها فيما أدرك إثباته بها ، فاقتضى أن لا يستقر ببعضها ، لأنه يصير ظنا في محل اليقين ، ولأن شهادة البصير في الظلمة ، ومن وراء حائل - أثبت من شهادة الأعمى ، لأنه قد يتخيل من الأشخاص ببصره ما يعجز عنه الأعمى ، ثم لم تمض شهادة البصير في هذه الحال فأولى أن لا تمضي شهادة الأعمى المقصر عن هذه الحال .

                                                                                                                                            ولأن الشهادة على العقد إذا عريت عن رؤية العاقد لم تصح كالشهادة بالاستفاضة ، ولأن من لم تصح منه الشهادة على الأفعال لم تصح الشهادة على العقود ، كالأخرس طردا والبصير عكسا .

                                                                                                                                            ولأن الصوت يدل على المصوت كما يدل اللمس على الملموس ، فلما امتنعت الشهادة باللمس لاشتباه الملموس ، امتنعت بالصوت لاشتباه الأصوات .

                                                                                                                                            وأما الاستدلال بعموم الآية فمخصوص بأدلتنا .

                                                                                                                                            وأما الاستدلال بأنه لما لم يمنع من النبوة لم يمنع من الشهادة فقد اختلف في عمى شعيب ، فأنكره بعضهم ، واعترف آخرون بحدوثه بعد الرسالة وسلم آخرون وجوده قبل أداء الرسالة ، وفرقوا بين النبوة والشهادة من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن إعجاز النبوة يوجب القطع بصحة شهادته ، وليس كذلك في غيره .

                                                                                                                                            والثاني : أن في النبوة شهادة على مغيب فاستوى فيها الأعمى والبصير ، فخالف من عداه في الشهادة على مشاهد .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن جمعهم بين الأنساب والعقود ، فهو أن الأنساب لا تعلم قطعا ، فجاز أن تعلم بالاستدلال ، والعقود يمكن أن تعلم قطعا ، فلم يجز أن تعلم بالاستدلال كالأفعال .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن ما أدرك بحاسة البصر لم يعتبر فيه غيرها ، فهو أن ما أدرك بأحدهما كان هذا حكمه ، وما أدرك بالحاستين اعتبرناهما فيه ، والعقود تدرك بهما فوجب أن يعتبرا فيها .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن الصور تختلف كالأصوات فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الصور تشتبه في المبادئ ثم تتحقق في الغايات ، والأصوات تشتبه في المبادئ والغايات .

                                                                                                                                            والثاني : أن المصوت قد يحكي صوت غيره فيشتبه ، وفي الصور لا يمكن أن يحكي صورة غيره فلم يشتبه .

                                                                                                                                            [ ص: 43 ] وأما الجواب عن استدلالهم بأن الصوت يدل على المصوت ، كما يستدل الأعمى بصوت زوجته عليها ، فهو أن الاستمتاع بالأزواج لخصوص الاستحقاق أوسع حكما من الشهادة ، لجواز الاستدلال عليها باللمس ، فجاز الاستدلال عليها بالصوت ، ويجوز أن يعتمد في الاستمتاع بالمزفوفة إليه على خبر ناقلها إليه ، وإن كان واحدا ، وذلك ممتنع في الشهادة ، وكذا الأخبار ينقلها الواحد عن الواحد ، ويقبل خبر المرأة الواحدة عن المرأة الواحدة ، وإن لم يقبل شهادة الواحدة عن الواحدة فافترقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية