الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ودليلنا من الكتاب قوله تعالى : " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم [ المائدة : 108 ] . أي : بعد الامتناع من الأيمان الواجبة ، فدل على نقل الأيمان من جهة إلى جهة .

                                                                                                                                            ويدل عليه من السنة ما رواه زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من طلب طلبه بغير بينة ، فالمطلوب أولى باليمين من الطالب " .

                                                                                                                                            وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المطلوب أولى باليمين من الطالب .

                                                                                                                                            فوجه الدليل من هذين الخبرين أن " أولى " . يستعمل حقيقة في الاشتراك فيما يترجح أحدهما على الآخر ، كقولك : زيد أفقه من عمرو ، إذا اشتركا في الفقه ، وزاد أحدهما على صاحبه .

                                                                                                                                            ولا يقال : زيد أفقه فيمن ليس بفقيه ، إلا على وجه المجاز .

                                                                                                                                            فلو لم يكن للطالب حق في اليمين لما جعل المطلوب أولى منه ، فيكون أولى في الابتداء ، وينقل عند امتناعه في الانتهاء .

                                                                                                                                            ويدل عليه ما روى الليث بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب حق ، وهذا نص ذكره أبو الوليد في المخرج ، والدارقطني في اليمين مع الشاهد ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار في دعوى القتل على يهود خيبر : " تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ قالوا : لا ، قال : فيبرئكم يهود بخمسين يمينا " .

                                                                                                                                            فدل هذا على نقل اليمين من جهة إلى جهة ، وأبو حنيفة لا يراه ، ويدل عليه إجماع الصحابة . وروى الشافعي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، أن رجلا من بني سعد بن ثابت أجرى فرسا ، فوطئ على أصبع رجل من جهينة ، فتألم منها دهرا ، ثم مات ، فتنازعوا إلى عمر رضي الله عنه ، فقال للمدعى عليهم : تحلفون خمسين يمينا أنه ما مات منها ، فأبوا ، فقال للمدعين : احلفوا أنتم ، فأبوا .

                                                                                                                                            وهذه قضية مشهورة في رد اليمين لم يظهر فيها مخالف .

                                                                                                                                            [ ص: 142 ] وقد ردت اليمين على عمر ، فحلف ، واستحق ، وردت على زيد بن ثابت ، فحلف . وروي أن المقداد اقترض من عثمان بن عفان مالا ، قال عثمان : هي سبعة آلاف ، فاعترف المقداد بأربعة آلاف ، وتنازعا إلى عمر ، فقال المقداد لعثمان : احلف إنها سبعة آلاف فقال له عمر : لقد أنصفك ، فلم يحلف عثمان ، فلما ولى المقداد قال عثمان : والله لقد أقرضته سبعة آلاف ، فقال له عمر : لم لم تحلف قبل أولى ؟ فقال : وما علي أن أحلف ، والله إن هذه لأرض والله إن هذه لسماء ، فقال عثمان : خشيت أن يوافق قدر بلاء ، فيقال : بيمينه .

                                                                                                                                            وهذا مستفيض في الصحابة لم يظهر فيهم مخالف ، فثبت أنه إجماع .

                                                                                                                                            فإن قيل : قد خالفهم علي بن أبي طالب عليه السلام فيما روي أن رجلا ابتاع من رجل عبدا ، فأصاب به عيبا ، فترافعا إلى شريح ، فقال للبائع : احلف ، فقال : أرد اليمين ، فقال شريح : لا ، فقال علي : قالون ، وهي كلمة رومية قيل : إن معناها جيد ، فصوب بها امتناع شريح من رد اليمين ، فصار قائلا به ، ومنع هذا من انعقاد الإجماع . قيل : هذه كلمة لا تعرف العرب معناها ، لأنها ليست من لغتهم ، ولو أراد ما ذكر من معناها : لأفصح به ، ولعبر عنه بما يفهم منه ، على أن قوله : قالون بمعنى جيد ، يحتمل أن يريد به أن ما قاله شريح جيد ، ويحتمل أن يريد به أن ما قاله البائع جيد ، فلم يكن فيه مع هذا الاحتمال ، ما يمنع من انعقاد إجماع قد انتفى عنه الاحتمال .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية