فصل : وأما السؤال فقد أفرده الشافعي ، وأجاب عليه ، وهو أنه إذا كان باطلا فلم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع باشتراط الولاء لعائشة رضي الله عنها في اشتراطه مع فساده وحظره ، وهو لا يجوز أن يأذن في فاسد ولا محظور . فقد أجاب الشافعي عن هذا السؤال بجوابين ، وأجاب المزني عنه بجواب ثالث ، وأجاب أبو علي بن أبي هريرة بجواب رابع ، وأجاب أبو علي الظهري بجواب خامس ، وحكى أبو حامد الإسفراييني جوابا سادسا . فالجواب الأول للشافعي فهو أن قوله ( واشترطي لهم الولاء ) زيادة تفرد بها هشام بن عروة ، وقد روى هذا الحديث نافع عن ابن عمر عن عائشة رضي الله عنها فلم يروها ، فكان ترك الزيادة في هذا الموضع أولى من الأخذ بها لثلاثة أمور :
أحدها : إنكار الرواة لها .
والثاني : منع الشرع منها .
والثالث : صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا يجوز مثل ذلك معها لمكانه من الله تعالى ، وأنه قد كان في حقه أشد ، وعلى أهله فيه أغلظ ، فلم يجز أن يأذن لهم في محظور عليهم وغرور لغيرهم ، فهذا جواب .
[ ص: 251 ] والجواب الثاني للشافعي : مع إثبات الزيادة إن كان ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبب خاص دعت إليه حادثة خاصة ، وقد أطلق الشافعي ذلك ، واختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أذن به في وقت جوازه ثم ورد بعده نسخ ، فأظهر نسخه ففسخه كما أمر سهلة أن ترضع سالما خمس رضعات ، وكان كبيرا ، ثم ، وقال : نسخ رضاع الكبير الرضاعة من المجاعة .
والثاني : أنهم في الجاهلية كانوا يتبايعون الولاء ويرونه مالا ، فغلظ الأمر فيه مع نهيه عن بيعه بأن أبطل عليهم بعد بيعه ، ولذلك غضب ، وصعد المنبر ، وخطب وقال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق .
والثالث : أنه لما نهاهم عن بيع الولاء وهبته ظنوا أن نهيه إنما توجه إلى إفراده بالبيع ، وأنه إذا كان مشروطا في بيع جائز صح ، فأحب أن يفسخه عليهم بعد شرطه ، ليكون الفسخ أوكد ، والنهي أغلظ ، كما أنهم كانوا يرون من الكبائر ، فلما أذن لهم فيها بقول الله تعالى : العمرة في أشهر الحج وأتموا الحج والعمرة لله ( البقرة : 196 ) ، توقفوا ، فأذن لهم في الإحرام بالحج ، ثم فسخ عليهم إحرامهم بالحج ، وجعله عمرة ليكون تغليظا عليهم في إثبات أوامره ، فهذا جواب ثان .
والجواب الثالث : وهو جواب المزني أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : بمعنى واشترطي عليهم الولاء ، لأنه من الألفاظ التي يقوم بعضها مقام بعض ، كما قال تعالى : واشترطي لهم الولاء لهم اللعنة ، ( الرعد : 25 ) ، بمعنى : عليهم اللعنة ، وقال تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ، ( الإسراء : 7 ) ، أي فعليها ، وقد رد أصحابنا عليه هذا الجواب من وجهين :
أحدهما : أن موضع الكلام أن يحمل على حقيقته دون مجازه إلا في موضع لا يمكن استعماله على الحقيقة ، فيعدل به إلى المجاز ، واستعمال الحقيقة هاهنا ممكن في نظم الكلام .
والثاني : أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا ، وقوله في خطبته : ، دليل على أن الشرط كان لهم ، فأبطله عليهم ، فهذا حكم الجواب الثالث . " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط .
والجواب الرابع : وهو جواب أبي علي بن أبي هريرة أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : خارج منه مخرج الوعيد والتهديد ، لا مخرج الإذن والجواز ، كما قال [ ص: 252 ] تعالى : واشترطي لهم الولاء فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ( الكهف : 29 ) وهذا إن كان ظاهر لفظه التخيير فهو وعيد وتهديد .
والجواب الخامس : وهو قول أبي علي الطبري أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " واشترطي لهم الولاء " . أي اشترطي لهم العتق ، فعبر عن العتق بالولاء لحدوثه عنه ، واستحقاقه به ، وهذا الجواب أيضا عدول عن الحقيقة إلى المجاز .
والجواب السادس : وهو الذي حكاه أبو حامد أن اشتراط الولاء تقدم العقد ، لأنه كان وقت المساومة ، وهو إنما يلزم إذا اقترن بالعقد ، فلذلك بطل ، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطال حكمه ، وفي هذا الجواب ضعف ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل الشرط لفساده ، ولم يبطله لأنه كان في غير محله ، ولو أراد ذلك لأزال الالتباس ، ولأبان الحكم المقصود .