فصل
ولا ينكر
nindex.php?page=treesubj&link=18467فضل العلم في الجملة إلا جاهل ، ولكن له قصد أصلي ، وقصد تابع .
فالقصد الأصلي ما تقدم ذكره .
وأما التابع ; فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا ، وإن لم يكن في أصله كذلك ، وأن الجاهل دنيء ، وإن كان في أصله شريفا ، وأن قوله نافذ في الأشعار والأبشار ، وحكمه ماض على الخلق ، وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين ; إذ قام لهم مقام النبي ; لأن العلماء ورثة الأنبياء ، وأن
[ ص: 86 ] العلم جمال ومال ، ورتبة لا توازيها رتبة ، وأهله أحياء أبد الدهر ، . . . إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة ، والمآثر الحسنة ، والمنازل الرفيعة ، فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا ، كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى ، وإن كان صاحبه يناله .
وأيضا ; فإن في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة ; إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم ، والحوز له ، ومحبة الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس ، وميلت إليها القلوب ، وهو مطلب خاص ، برهانه التجربة التامة ، والاستقراء العام ، فقد يطلب العلم للتفكه به ، والتلذذ بمحادثته ، ولا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال ، وللنظر في أطرافها متسع ، ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع .
ولكن كل تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادما للقصد الأصلي أو لا .
فإن كان خادما له ; فالقصد إليه ابتداء صحيح ، وقد قال تعالى في معرض المدح :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=74والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [ الفرقان : 74 ] .
وجاء عن بعض السلف الصالح : اللهم اجعلني من أئمة المتقين ، وقال
عمر لابنه حين وقع في نفسه أن الشجرة التي هي مثل المؤمن النخلة : " لأن
[ ص: 87 ] تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا " .
وفي القرآن عن
إبراهيم عليه السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=84واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ الشعراء : 84 ] .
فكذلك إذا طلبه لما فيه من الثواب الجزيل في الآخرة ، وأشباه ذلك .
وإن كان غير خادم له ; فالقصد إليه ابتداء غير صحيح ؛ كتعلمه رياء ، أو ليماري به السفهاء ، أو يباهي به العلماء ، أو يستميل به قلوب العباد ، أو لينال من دنياهم ، أو ما أشبه ذلك ; فإن مثل هذا إذا لاح له شيء مما طلب - زهد في التعلم ، ورغب في التقدم ، وصعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه ، وأنف من الاعتراف بالتقصير ، فرضي بحاكم عقله ، وقاس بجهله ، فصار ممن سئل فأفتى بغير علم ; فضل وأضل أعاذنا الله من ذلك بفضله .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337336لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ، ولا لتماروا به السفهاء ، ولا لتحتازوا به المجالس ، فمن فعل ذلك ; فالنار النار .
[ ص: 88 ] وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337337من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله ، لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا ، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
وفي بعض الحديث :
سئل عليه السلام عن الشهوة الخفية ، فقال : هو الرجل يتعلم العلم يريد أن يجلس إليه الحديث .
وفي القرآن العظيم :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار الآية [ البقرة : 174 ] .
والأدلة في المعنى كثيرة .
فَصْلٌ
وَلَا يُنْكِرُ
nindex.php?page=treesubj&link=18467فَضْلَ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا جَاهِلٌ ، وَلَكِنْ لَهُ قَصْدٌ أَصْلِيٌّ ، وَقَصْدٌ تَابِعٌ .
فَالْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَأَمَّا التَّابِعُ ; فَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ صَاحِبِهِ شَرِيفًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِهِ كَذَلِكَ ، وَأَنَّ الْجَاهِلَ دَنِيءٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ شَرِيفًا ، وَأَنَّ قَوْلَهُ نَافِذٌ فِي الْأَشْعَارِ وَالْأَبْشَارِ ، وَحُكْمُهُ مَاضٍ عَلَى الْخَلْقِ ، وَأَنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ; إِذْ قَامَ لَهُمْ مَقَامَ النَّبِيِّ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَنَّ
[ ص: 86 ] الْعِلْمَ جَمَالٌ وَمَالٌ ، وَرُتْبَةٌ لَا تُوَازِيهَا رُتْبَةٌ ، وَأَهْلُهُ أَحْيَاءٌ أَبَدَ الدَّهْرِ ، . . . إِلَى سَائِرِ مَا لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَاقِبِ الْحَمِيدَةِ ، وَالْمَآثِرِ الْحَسَنَةِ ، وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِلْمِ شَرْعًا ، كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ يَنَالُهُ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ لَذَّةً لَا تُوَازِيهَا لَذَّةٌ ; إِذْ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَعْلُومِ ، وَالْحَوْزِ لَهُ ، وَمَحَبَّةُ الِاسْتِيلَاءِ قَدْ جُبِلَتْ عَلَيْهَا النُّفُوسُ ، وَمُيِّلَتْ إِلَيْهَا الْقُلُوبُ ، وَهُوَ مَطْلَبٌ خَاصٌّ ، بُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ ، وَالِاسْتِقْرَاءُ الْعَامُّ ، فَقَدْ يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِلتَّفَكُّهِ بِهِ ، وَالتَّلَذُّذِ بِمُحَادَثَتِهِ ، وَلَا سِيَّمَا الْعُلُومُ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَجَالٌ ، وَلِلنَّظَرِ فِي أَطْرَافِهَا مُتَّسَعٌ ، وَلِاسْتِنْبَاطِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ فِيهَا طَرِيقٌ مُتَّبَعٌ .
وَلَكِنْ كُلُّ تَابِعٍ مِنْ هَذِهِ التَّوَابِعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْقَصْدِ الْأَصْلِيِّ أَوْ لَا .
فَإِنْ كَانَ خَادِمًا لَهُ ; فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً صَحِيحٌ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=74وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [ الْفُرْقَانِ : 74 ] .
وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِحِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ ، وَقَالَ
عُمَرُ لِابْنِهِ حِينَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي هِيَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ النَّخْلَةُ : " لَأَنْ
[ ص: 87 ] تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا " .
وَفِي الْقُرْآنِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=84وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 84 ] .
فَكَذَلِكَ إِذَا طَلَبَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لَهُ ; فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ كَتَعَلُّمِهِ رِيَاءً ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ ، أَوْ يُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ ، أَوْ يَسْتَمِيلَ بِهِ قُلُوبَ الْعِبَادِ ، أَوْ لِيَنَالَ مِنْ دُنْيَاهُمْ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا لَاحَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا طَلَبَ - زَهِدَ فِي التَّعَلُّمِ ، وَرَغِبَ فِي التَّقَدُّمِ ، وَصَعُبَ عَلَيْهِ إِحْكَامُ مَا ابْتَدَأَ فِيهِ ، وَأَنِفَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ ، فَرَضِيَ بِحَاكِمِ عَقْلِهِ ، وَقَاسَ بِجَهْلِهِ ، فَصَارَ مِمَّنْ سُئِلَ فَأَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ ; فَضَّلَ وَأَضَلَّ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337336لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ ، وَلَا لِتَحْتَازُوا بِهِ الْمَجَالِسَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ; فَالنَّارُ النَّارُ .
[ ص: 88 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337337مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ غَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا ، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ :
سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ ، فَقَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ يُرِيدُ أَنْ يُجْلَسَ إِلَيْهِ الْحَدِيثَ .
وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 174 ] .
وَالْأَدِلَّةُ فِي الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ .