[ ص: 138 ] [ ص: 139 ] . من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام
وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا ، ثم علمه ، وبصره ، وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا ; غير أن ما علمه من ذلك على ضربين :
ضرب منها ضروري ، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف ، بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة ، كالتقامه الثدي ، ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا - هذا من المحسوسات - وكعلمه بوجوده ، وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات .
وضرب منها بوساطة التعليم ، شعر بذلك أو لا ، كوجوه التصرفات الضرورية ، نحو محاكاة الأصوات ، والنطق بالكلمات ، ومعرفة أسماء الأشياء - في المحسوسات ، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر - في المعقولات .
[ ص: 140 ] وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر ; فلا بد من معلم فيها ، وإن كان الناس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا ، فالإمكان مسلم ، ولكن الواقع في مجاري العادات أن لابد من المعلم ، وهو متفق عليه في الجملة ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل كاختلاف جمهور الأمة والإمامية - وهم الذين يشترطون المعصوم - والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام ، ومع ذلك فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم ، علما كان المعلم أو عملا ، واتفاق الناس على ذلك في الوقوع وجريان العادة به - كاف في أنه لا بد منه ، وقد قالوا إن العلم كان في صدور الرجال ، ثم انتقل إلى الكتب ، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال ، وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال ; إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم ، وأصل هذا في الصحيح : الحديث ، فإذا كان كذلك ; فالرجال هم مفاتحه بلا شك . إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء
فإذا تقرر هذا ; فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به ، وهذا أيضا واضح في نفسه ، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء ; إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق ؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم ، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه ، عارفا بما يلزم عنه ، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه ، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه ، وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية ; وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال .
غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة ، لأن فروع كل علم إذا انتشرت ، [ ص: 141 ] وانبنى بعضها على بعض - اشتبهت ، وربما تصور تفريعها على أصول مختلفة في العلم الواحد ، فأشكلت أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول ، فأهملها العالم من حيث خفيت عليه ، وهي في نفس الأمر على غير ذلك ، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر ، فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح ، وأشباه ذلك ; فلا يقدح في كونه عالما ، ولا يضر في كونه إماما مقتدى به ; فإن قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان ; فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص .