[ ص: 290 ] المسألة الثالثة عشرة
فاعلم أن : أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين
أحدهما : أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم ، أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه ، وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر ، ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن ، أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة .
والثاني : أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة ، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع ، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة .
ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [ آل عمران : 7 ] فليس مقصودهم الاقتباس منها ، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم ; إذ هو السابق المعتبر ، وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم ، والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، [ ص: 291 ] ويقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم ، وهو أصل الشريعة ; لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله ، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا ، وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد ، وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى .