فصل
ومن الفوائد في ذلك أن ، وما فيه منفعة ، أو منافع لا يخلو من ثلاثة أقسام . كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في [ ص: 457 ] المعاوضات لا يصح العقد عليه
أحدها : أن يكون جميعها حراما أن ينتفع به ، فلا إشكال في أنه جار مجرى ما لا منفعة فيه ألبتة .
والثاني : أن يكون جميعها حلالا ، فلا إشكال في صحة العقد به وعليه .
وهذان القسمان وإن تصورا في الذهن بعيد أن يوجدا في الخارج ; إذ ما من عين موجودة يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها إلا وفيها جهة مصلحة وجهة مفسدة .
وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في كتاب المقاصد ، فلا بد من هذا الاعتبار ، وهو ظاهر بالاستقراء فيرجع القسمان إذا إلى القسم الثالث ، وهو أن يكون بعض المنافع حلالا ، وبعضها حراما فهاهنا معظم نظر المسألة ، وهو أولا ضربان :
أحدهما : أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفا والجانب الآخر تابع غير مقصود بالعادة إلا أن يقصد على الخصوص ، وعلى خلاف العادة ، فلا إشكال في أن الحكم لما هو مقصود بالأصالة والعرف والآخر لا حكم له ; لأنا لو اعتبرنا الجانب التابع لم يصح لنا تملك عين من الأعيان ولا عقد عليه لأجل منافعه ; لأن فيه منافع محرمة ، وهو من الأدلة على سقوط [ ص: 458 ] الطلب في جهة التابع .
وقد تقدم بيان هذا المعنى في المسألة السابقة ، وأن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من الطلب فكذلك هاهنا اللهم إلا أن يكون للعاقد قصد إلى المحرم على الخصوص ، فإن هذا يحتمل وجهين .
الأول : اعتبار القصد الأصيل ، وإلغاء التابع ، وإن كان مقصودا فيرجع إلى الضرب الأول .
والآخر : اعتبار القصد الطارئ ; إذ صار بطريانه سابقا ، أو كالسابق ، وما سواه كالتابع فيكون الحكم له .
ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء الأمة بقصد إسلامها للبغاء كسبا به ، وشراء الغلام للفجور به ، وشراء العنب ليعصر خمرا والسلاح لقطع الطريق ، وبعض الأشياء للتدليس بها ، وفي أصالة [ ص: 459 ] المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي من منع ذلك ، وشراء السرقين لتدمين المزارع ، وشراء الخمر للتخليل ، وشراء شحم الميتة لتطلى به السفن ، أو يستصبح به الناس ، وما أشبه ذلك .
والمنضبط هو الأول والشواهد عليه أكثر ; لأن اعتبار ما يقصد بالأصالة ، [ ص: 460 ] والعادة هو الذي جاء في الشريعة القصد إليه بالتحريم والتحليل ، فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إن كانت من علي الرقيق ، أو الخدمة إن كانت من الوخش ، وشراء الخمر للشرب والميتة والدم والخنزير للأكل هو الغالب المعتاد عند العرب الذين نزل القرآن عليهم ، ولذلك حذف متعلق التحريم والتحليل في نحو حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] فوجه التحليل والتحريم على أنفس الأعيان ; لأن المقصود مفهوم ، وكذلك قال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] .
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [ النساء : 10 ] ، وأشباهه .
وإن كان ذلك محرما في غير الأكل ; لأن أول المقاصد وأعظمها هو الأكل ، وما سوى ذلك مما يقصد بالتبع ، وما لا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له ، وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها ، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام في : إنه تطلى به السفن ، ويستصبح به الناس فأورد ما دل على منع البيع ، ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات ; لأن المقصود هو الأكل محرم ، وقال : شحم الميتة اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ، وأكلوا أثمانها . لعن الله
[ ص: 461 ] وقال في الخمر : ، و إن الذي حرم شربها حرم بيعها لأجل أن المقصود من المحرم في العادة هو الذي توجه إليه التحريم ، وما سواه تبع لا حكم له . إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه
ولأجل ذلك أجازوا نكاح الرجل ليبر يمينه إذا حلف أن يتزوج على امرأته ، ولم يكن قصده البقاء ; لأن هذا من توابع النكاح التي ليست بمقصودة في أصل النكاح ، ولا تعتبر في أنفسها ، وإنما تعتبر من حيث هي توابع ، ولو كانت التوابع مقصودة شرعا حتى يتوجه عليها مقتضاها من الطلب لم يجز كثير من العقود للجهالة بتلك المنافع المقصودة ، بل لم يجز النكاح ; لأن الرجل إذا [ ص: 462 ] نكح لزمه القيام على زوجته بالإنفاق ، وسائر ما تحتاج إليه زيادة إلى بذل الصداق ، وذلك كله كالعوض من الانتفاع بالبضع ، وهذا ثمن مجهول فالمنافع التابعة للرقبة المعقود عليها ، أو للمنافع التي هي سابقة في المقاصد العادية هي المعتبرة ، وما سواها مما هو تبع لا ينبني عليه حكم إلا أن يقصد قصدا فيكون فيه نظر .
والظاهر أن لا حكم له في ظاهر الشرع لعموم ما تقدم من الأدلة ، ولخصوص الحديث في سؤالهم عن شحم الميتة ، وأنه مما يقصد لطلاء السفن وللاستصباح ، وكلا الأمرين مما يصح الانتفاع بالشحم فيه على الجملة ، ولكن هذا القصد الخاص لا يعارض القصد العام .
فإن صار التابع غالبا في القصد ، وسابقا في عرف بعض الأزمنة حتى [ ص: 463 ] يعود ما كان بالأصالة كالمعدوم المطرح فحينئذ ينقلب الحكم ، وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق ، ولكن إن فرض اتفاقه انقلب الحكم ، والقاعدة مع ذلك ثابتة كما وضعت في الشرع ، وإن لم يتفق ، ولكن القصد إلى التابع كثير فالأصل اعتبار ما يقصد مثله عرفا والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتبارا بالاحتمالين ، وقاعدة الذرائع أيضا مبنية على سبق القصد إلى الممنوع ، وكثرة ذلك في ضم العقدين ، ومن لا يراها بنى على أصل القصد في انفكاك العقدين [ ص: 464 ] عرفا ، وأن القصد الأصلي خلاف ذلك .
والضرب الثاني : أن لا يكون أحد الجانبين تبعا في القصد العادي ، بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة كالحلي والأواني المحرمة إذا فرضنا العين والصياغة مقصودتين معا عرفا ، أو يسبق كل واحد منهما على الانفراد عرفا فهذا بمقتضى القاعدة المتقدمة لا يمكن القضاء فيه باجتماع الأمر والنهي ; لأن متعلقيهما متلازمان ، فلا بد من انفراد أحدهما ، واطراح الآخر حكما .
أما على اعتبار التبعية كما مر فيسقط الطلب المتوجه إلى التابع .
وأما على عدم اعتبارها فيصير التابع عفوا ، ويبقى التعيين فهو محل اجتهاد ، وموضع إشكال ، ويقل وقوع مثل هذا في الشريعة ، وإذا فرض وقوعه فكل أحد ، وما أداه إليه اجتهاده .
وقد قال المازري في نحو هذا القسم في البيوع : ينبغي أن يلحق بالممنوع ; لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن ، [ ص: 465 ] والعقد واحد على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه والمعاوضة على المحرم منه ممنوعة فمنع الكل لاستحالة التمييز ، وإن سائر المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولا لو قدر انفراده بالعقد هذا ما قال ، وهو متوجه .
وأيضا فقاعدة الذرائع تقوى ها هنا إذا قد ثبت القصد إلى الممنوع .
وأيضا فقاعدة معارضة درء المفاسد لجلب المصالح جارية هنا ; لأن درء المفاسد مقدم ، ولأن قاعدة التعاون هنا تقضي بأن المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم والعدوان ، ولذلك يمنع باتفاق قصدا ، [ ص: 466 ] وشراء السلاح لقطع الطريق ، وشراء الغلام للفجور ، وأشباه ذلك ، وإن كان ذلك القصد تبعيا فهذا أولى أن يكون متفقا على الحكم بالمنع فيه لكنه من باب سد الذرائع ، وإنما وقع النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم ، وكون المعاوضة فاسدة ، أو غير فاسدة . شراء العنب للخمر
وقد تقدم لذلك بسط في كتاب المقاصد .