فصل
ومن المنقول عن سهل أيضا في ولا تقربا هذه الشجرة [ البقرة : 35 ] قال : لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة ، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره ، أي : لا تهتم بشيء هو غيري قال : فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه قال : وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرا إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه فيه إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره ، وينصره على عدوه وعليها قال : قوله تعالى : وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة ; لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست [ ص: 246 ] به نفسه ; فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر إلى آخر ما تكلم به .
وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله ، وإن كان ذلك منهيا عنه أيضا ، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول ، فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره ، ولم يرد النهي عن الأكل تصريحا فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به .
وأيضا ; فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا إذ لا مناسبة فيه تظهر ، ولأنه لم يقل به أحد ، وإنما النهي عن معنى في القرب ، وهو إما التناول والأكل ، وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه ، وذلك مساكنة الهمة ; فإنه الأصل في تحصيل الأكل ، ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهي عنه ; فهذا التفسير له وجه ظاهر ، فكأنه يقول لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله ; إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده ، فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان ، وذلك الخلد المدعى ; أضاف الله إليه لفظ العصيان ، ثم تاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم [ ص: 247 ] ومن ذلك أنه قال في إن أول بيت وضع للناس الآية [ آل عمران : 96 ] باطن البيت قلب قوله تعالى : محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته .
وهذا التفسير يحتاج إلى بيان ; فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب ، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب ، ولا يلائمه مساق بحال ; فكيف هذا ؟ والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن ; فزال الإشكال إذا ، وبقي النظر في هذه الدعوى ، ولا بد إن شاء الله من بيانها ومنه قوله في تفسير يؤمنون بالجبت والطاغوت [ النساء : 51 ] [ ص: 248 ] قال " رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية " وهو أيضا من قبيل ما قبله ، وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر في قوله تعالى : قول الله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا [ البقرة : 22 ] وقال في قوله تعالى : والجار ذي القربى الآية [ النساء : 36 ] أما باطنها فهو القلب والجار الجنب [ النساء : 36 ] : النفس الطبيعي والصاحب بالجنب [ النساء : 36 ] العقل المقتدي بعمل الشرع وابن السبيل [ النساء : 36 ] الجوراح المطيعة لله عز وجل .
وهو من المواضع المشكلة في كلامه ، ولغيره مثل ذلك أيضا ، وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء ، وغير ذلك لا يعرفه العرب ، لا من آمن منهم ولا من كفر ، والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه ، ولو كان عندهم معروفا لنقل لأنهم كانوا أحرى باتفاق الأئمة ، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ، ولا هم أعرف بالشريعة منهم ، ولا أيضا [ ص: 249 ] ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير ، لا من مساق الآية ; فإنه ينافيه ولا من خارج ; إذ لا دليل عليه كذلك ، بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم . بفهم ظاهر القرآن وباطنه
وقال في قوله : صرح ممرد من قوارير [ النمل : 44 ] الصرح نفس الطبع ، والممرد الهوى إذا كان غالبا ستر أنوار الهدى ، بالترك من الله تعالى العصمة لعبده .
وفي قوله : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ النمل : 52 ] أي : قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه ، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون ، والبيوت القلوب ; فمنها عامرة بالذكر ، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر .
وفي قوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ الروم : 50 ] قال : وقال في قوله تعالى : حياة القلوب بالذكر ظهر الفساد في البر والبحر الآية [ الروم : 41 ] مثل الله القلب بالبحر ، والجوارح بالبر ، ومثله أيضا بالأرض التي تزهى بالنبات ، هذا باطنه .
وقد حمل بعضهم قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه [ البقرة : 114 ] على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله .
[ ص: 250 ] ونقل في قوله تعالى : فاخلع نعليك [ طه : 12 ] أن باطن النعلين هو الكونان : الدنيا ، والآخرة ; فذكر عن الشبلي أن معنى فاخلع نعليك [ طه : 12 ] اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية ، وعن ابن عطاء : فاخلع نعليك عن الكون ; فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب ، وقال : النعل النفس ، والوادي المقدس دين المرء ، أي : حان وقت خلوك من نفسك ، والقيام معنا بدينك ، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف .
وهذا كله إن صح نقله خارج عما تفهمه العرب ، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه ، ولقد قال : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ . الصديق
[ ص: 251 ] [ ص: 252 ] وفي الخبر : من . قال في القرآن برأيه فأصاب ; فقد أخطأ
وما أشبه ذلك من التحذيرات ، وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء ، وربما ألم بشيء منه في الإحياء وغيره ، وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم ; فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين : منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ، ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه ، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه ; فربما كذب به أو أشكل عليه ، ومنهم من يكذب به على الإطلاق ، ويرى أنه تقول وبهتان ، مثل ما تقدم من تفسير الغزالي الباطنية ومن حذا حذوهم ، وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف ، ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلم ، يتبين به ما جاء من هذا القبيل وهي :