[ ص: 464 ] المسألة العاشرة
، وهو حق وصدق ، معتمد عليه فيما أخبر به وعنه ، سواء علينا أنبنى عليه في التكليف حكم أم لا كما أنه إذا شرع حكما أو أمر أو نهى ; فهو كما قال عليه الصلاة والسلام ، لا يفرق في ذلك بين ما أخبره به الملك عن الله ، وبين ما نفث في روعه وألقي في نفسه ، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة ، أو كيف ما كان ; فذلك معتبر يحتج به ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا ; لأنه صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة ، وما ينطق عن الهوى [ ص: 465 ] وهذا مبين في علم الكلام ; فلا نطول بالاحتجاج عليه ، ولكنا نمثله ثم نبني عليه ما أردنا بحول الله . كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر فهو كما أخبر
فمثاله قوله عليه الصلاة والسلام : فهذا بناء حكم على ما ألقي في النفس [ ص: 466 ] وقال عليه الصلاة والسلام : إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ; فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ; . أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها ; فالتمسوها في العشر الغوابر
وفي حديث آخر : ; فهذا بناء من النبي صلى الله عليه وسلم على رؤيا [ ص: 467 ] النوم ونحو ذلك وقع في بدء الأذان ، وهو أبلغ في المسألة أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر قال : لما أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الرؤيا ; فقال : إن هذه لرؤيا حق الحديث ، إلى أن قال عبد الله بن زيد : والذي بعثك بالحق ; لقد رأيت مثل الذي رأى قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد عمر بن الخطاب ; فذاك أثبت [ ص: 468 ] فحكم عليه الصلاة والسلام على الرؤيا بأنها حق وبنى عليها الحكم في ألفاظ الأذان . عن
وفي الصحيح فهذا حكم أمري بناء على الكشف ، ومن تتبع الأحاديث وجد أكثر من هذا [ ص: 469 ] فإذا تقرر هذا ; فلقائل أن يقول : قد مر قبل هذا في كتاب المقاصد قاعدة بينت أن ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصنا ، وما يعمه يعمنا ، فإذا بنينا على ذلك ; فلكل من كان من أهل الكشف والاطلاع أن يحكم بمقتضى اطلاعه وكشفه ، ألا ترى إلى قضية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ثم انصرف ; فقال : يا فلان ألا تحسن صلاتك ؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي ; فإنما يصلي لنفسه ؟ إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي مع بنته أبي بكر الصديق عائشة فيما نحلها إياه ثم مرض قبل أن تقبضه ، قال فيه : وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله قالت : فقلت يا أبت ! والله لو كان كذا وكذا لتركته ، إنما هي أسماء ; فمن الأخرى ؟ قال : ذو بطن بنت خارجة أراها جارية ، وقضية في ندائه عمر بن الخطاب سارية وهو على المنبر ; فبنوا كما ترى على الكشف والاطلاع المعدود من الغيب وهو معتاد في أولياء الله تعالى ، وكتب العلماء [ ص: 470 ] مشحونة بأخبارهم فيه ، فيقتضي ذلك جريان الحكم وراثة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب : أن هذا السؤال هو فائدة هذه المسألة ، وبسببه جلبت هذه المقدمة ، وإن كان الكلام المتقدم في كتاب المقاصد كافيا ، ولكن نكتة المسألة هذا تقريرها .
فاعلم أن النبي مؤيد بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال ، وصحة ما بين ، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوما بلا خلاف ; إما بأنه لا يخطئ ألبتة ، وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض ; فما ظنك بغير ذلك ؟ فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل : ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله عز وجل ، وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان ، ويجوز أن تكون رؤياه حلما ، وكشفه غير حقيقي وإن تبين في الوجود صدقه ، واعتيد ذلك فيه واطرد ; فإمكان الخطأ والوهم باق ، وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم [ ص: 471 ] وأيضا ; فإن كان مثل هذا معدودا في الاطلاع الغيبي ; فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كما في الحديث من قوله عليه السلام في إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام [ لقمان : 34 ] إلى آخر السورة ، وقال في الآية الأخرى : خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم تلا : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ الأنعام : 59 ] واستثنى المرسلين في الآية الأخرى بقوله : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ الجن : 26 ، 27 ] فبقي من عداهم على الحكم الأول ، وهو امتناع علمه وقال تعالى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ آل عمران : 179 ] وقال : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ النمل : 65 ] وفي حديث عائشة : محمدا يعلم ما في غد ; فقد أعظم الفرية على الله [ ص: 472 ] وقد تعاضدت الآيات والأخبار وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله ، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر ، حسبما مر في باب العموم من هذا الكتاب ، فإذا كان كذلك ; خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء صلوات الله عليهم في العلم بالمغيبات . ومن زعم أن
وما ذكر قبل عن الصحابة أو ما يذكر عنهم بسند صحيح ; فمما لا ينبني عليه حكم ، إذ لم يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوعه على حسب ما أخبروه هو مما يظن بهم ، ولكنهم لا يعاملون أنفسهم إلا بأمر مشترك لجميع الأمة ، وهو جواز الخطأ ، لذلك قال أبو بكر : أراها جارية ; فأتى بعبارة الظن التي لا تفيد حكما ، وعبارة يا سارية ! الجبل مع أنها إن صحت لا تفيد حكما شرعيا ، هي أيضا لا تفيد أن كل ما سواها مثلها ، وإن سلم ; فلخاصية أن الشيطان كان يفر منه ; فلا يطور حول حمى أحواله التي أكرمه الله بها [ ص: 473 ] بخلاف غيره ، فإذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغيب ; فلا يكون على علم منها محقق لا شك فيه ، بل على الحال التي يقال فيها : أرى و أظن ، فإذا وقع مطابقا في الوجود ، وفرض تحققه بجهة المطابقة أولا ، والاطراد ثانيا ; فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكم لأنه صار من باب الحكم على الواقع ; فاستوت الخارقة وغيرها ، نعم تفيد الكرامات والخوارق لأصحابها يقينا وعلما بالله تعالى ، وقوة فيما هم عليه وهو غير ما نحن فيه .
ولا يقال : إن الظن أيضا معتبر شرعا في الأحكام الشرعية ; كالمستفاد من أخبار الآحاد والقياس وغيرهما ، وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علما مع الاطراد والمطابقة ; فإنه يفيد ظنا ، فيكون معتبرا .
لأنا نقول : ما كان من الظنون معتبرا شرعا ; فلاستناده إلى أصل شرعي [ ص: 474 ] حسبما تقدم في موضعه من هذا الكتاب ، وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني ، هذا وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ثبت ذلك بالنسبة إليه ; فلا يثبت بالنسبة إلينا لفقد الشرط وهو العصمة ، وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط باتفاق العقلاء .