فصل
ولا بد من بيان بعض تفاصيل هذه الجملة ليظهر وجهها ، وتتبين صحتها بحول الله .
وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ألا ترى إلى قول الله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ النحل : 78 ] ، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية ، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه ، وتارة بالتعليم ; فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح ، وكافة ما تدرأ به المفاسد إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية ، والمطالب الإلهامية ; لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح ـ كان ذلك من قبيل الأفعال أو الأقوال أو العلوم ، والاعتقادات أو الآداب الشرعية أو العادية ـ وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه ، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال ، فيظهر فيه وعليه ، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ [ ص: 285 ] تلك التهيئة ، فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته ، فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم ، وآخر لطلب الرياسة ، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها ، وآخر للصراع ، والنطاح إلى سائر الأمور .
هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي ، فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه ، فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها ، فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه ، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها ، ويراعونها [ إلى ] أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم ، ويعينونهم على القيام بها ، ويحرضونهم على الدوام فيها حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط ، ثم يخلى بينهم وبين أهلها ، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها ، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية والمدركات الضرورية ، فعند ذلك يحصل الانتفاع وتظهر نتيجة تلك التربية .
فإذا فرض ـ مثلا ـ واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك وجودة فهم ووفور حفظ لما يسمع ـ وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف ـ ميل به نحو ذلك القصد ، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة ; مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم ، فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم ، ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به ويعان عليه ، ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء ، فإذا دخل في ذلك البعض فمال [ ص: 286 ] به طبعه إليه على الخصوص ، وأحبه أكثر من غيره ، ترك وما أحب ، وخص بأهله ، فوجب عليهم إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له ، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته ، ثم إن وقف هنالك فحسن ، وإن طلب الأخذ في غيره أو طلب به ; فعل معه فيه ما فعل فيما قبله ، وهكذا إلى أن ينتهي .
كما لو بدأ بعلم العربية مثلا ـ فإنه الأحق بالتقديم ـ فإنه يصرف إلى معلميها فصار من رعيتهم ، وصاروا هم رعاة له ، فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم ; فإن انتهض عزمه بعد إلى أن صار يحذق القرآن صار من رعيتهم ، وصاروا هم رعاة له كذلك ، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم ، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور فيمال به نحو ذلك ، ويعلم آدابه المشتركة ، ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به ، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض ، وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم ; لأنه سير أولا في طريق مشترك ، فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة ، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية ، وفي التي يندر من يصل إليها كالاجتهاد في الشريعة والإمارة ; فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة .
فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد ولا هو على الكافة بإطلاق ، ولا على البعض بإطلاق ، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل ، ولا بالعكس ، بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يفصل بنحو من هذا التفصيل ، ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع [ ص: 287 ] وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه . والله أعلم وأحكم .