المسألة الثالثة عشرة
فنقول : لا يخلو أن يكون
nindex.php?page=treesubj&link=20734فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه أو من باب آخر هو أصل في نفسه ; فإن كان هذا الثاني : فإما أن يكون واقعا أو متوقعا ; فإن كان متوقعا فلا أثر له مع وجود الحرج ، لأن الحرج بالترك واقع ، وهو مفسدة ، ومفسدة العارض متوقعة متوهمة فلا تعارض الواقع ألبتة ، وأما إن كان واقعا فهو محل الاجتهاد في الحقيقة ، وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة ترك المباح ، وقد يكون الأمر بالعكس ، والنظر في هذا بابه باب التعارض والترجيح ، وإن كان الأول فلا
[ ص: 291 ] يصح التعارض ، ولا تساوي المفسدتين ، بل مفسدة فقد الأصل أعظم ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف ، وقد مر بيان ذلك في موضعه ، وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق بخلاف العكس ، كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم ، وفي المصلحة والمفسدة ، فكذا ما كان مثل ذلك .
والثاني : أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي ، وقد علم أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي ، فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمل في مقابلة وجود مصلحة المكمل .
والثالث : أن المكمل من حيث هو مكمل إنما هو مقو لأصل المصلحة ومؤكد لها ; ففوته إنما هو فوت بعض المكملات ، مع أن أصل المصلحة باق ، وإذا كان باقيا لم يعارضه ما ليس في مقابلته ، كما أن فوت أصل المصلحة لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل ، وهو ظاهر .
والقسم الثالث : من القسم الأول ـ وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج ـ ; فهو محل اجتهاد ، وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية ; فإن هذا الأصل متفق عليه في الاعتبار ،
[ ص: 292 ] ومنه ما فيه خلاف كالذرائع في البيوع ، وأشباهها ، وإن كان أصل الذرائع أيضا متفقا عليه ، ويدخل فيه أيضا قاعدة تعارض الأصل والغالب ، والخلاف فيه شهير .
ومجال النظر في هذا القسم دائر بين طرفي نفي وإثبات متفق عليهما ; فإن أصل التعاون على البر والتقوى أو الإثم والعدوان مكمل لما هو عون عليه ، وكذلك أصل الذرائع ، ويقابله في الطرف الآخر أصل الإذن الذي هو مكمل لا مكمل .
ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري ; إذ قد تقرر أن حقيقة الإباحة ـ التي هي تخيير ـ حقيقة تلحق بالضروريات ، وهي أصول المصالح فهي في حكم الخادم لها ، إن لم تكن في الحقيقة إياها ، فاعتبار المعارض في المباح اعتبار لمعارض الضروري في الجملة ، وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضروريا ، وإذا كان كذلك ; صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه الذي لا يكون مثله ، وهو خلاف الدليل .
وأيضا ; إن فرض عدم اعتبار الأصل لمعارضه المكمل ، وأطلق هذا النظر أوشك أن يصار فيه إلى الحرج الذي رفعه الشارع لأنه مظنته ; إذ عوارض
[ ص: 293 ] المباح كثيرة ، فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك ، وتعذر المخرج ، فيصار إلى القسم الذي قبله ، وقد مر ما فيه .
ولما كان إهمال الأصل من الإباحة هو المؤدي إلى ذلك لم يسغ الميل إليه ، ولا التعريج عليه .
وأيضا ; فإذا كان هذا الأصل دائرا بين طرفين متفق عليهما ، وتعارضا عليه لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الميل إلى الآخر ، ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل ، فيجب الوقوف إذا ; إلا أن لنا فوق ذلك أصلا أعم ، وهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=20579أصل الأشياء إما الإباحة ، وإما العفو ، وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن فكان هو الراجح .
ولمرجح جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها ، وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات ، وهي كذلك أبدا لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيرا فيها ، وقد فرضت كذلك ; هذا خلف . وإذا تخير المكلف فيها ; فذلك قاض بعدم المفسدة في تحصيلها ، وجانب العارض يقضي بوقوع المفسدة أو توقعها ، وكلاهما صاد عن سبيل التخيير فلا يصح ، ـ والحالة هذه ـ أن تكون مخيرا فيها ، وذلك معنى اعتبار العارض المعارض دون أصل الإباحة .
وأيضا ; فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل ; لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة ; غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع ، فنهى عن ملابستها ، وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال
[ ص: 294 ] هذه المطالب ، وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة .
وأيضا ; فالاحتياط للدين ثابت من الشريعة ، مخصص لعموم أصل الإباحة إذا ثبت ; فإن المسألة مختلف فيها ، فمن قال : إن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر ، فلا نظر في اعتبار العوارض لأنها ترد الأشياء إلى أصولها ، فجانبها أرجح .
ومن قال : الأصل الإباحة أو العفو ; فليس ذلك على عمومه باتفاق ، بل له مخصصات ، ومن جملتها أن لا يعارضه طارئ ولا أصل ، وليست مسألتنا بمفقودة المعارض ، ولا يقال : إنهما يتعارضان لإمكان تخصيص أحدهما بالآخر ، كما لا يصح أن يقال : إن قوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337396لا يرث المسلم الكافر معارض لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=11يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 11 ] .
[ ص: 295 ] وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة ، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية كما تقدم . والله أعلم .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ
فَنَقُولُ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=20734فَقْدُ الْعَوَارِضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْمُكَمِّلِ لَهُ فِي بَابِهِ أَوْ مِنْ بَابٍ آخَرَ هُوَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ ; فَإِنْ كَانَ هَذَا الثَّانِي : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا أَوْ مُتَوَقَّعًا ; فَإِنْ كَانَ مُتَوَقَّعًا فَلَا أَثَرَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ ، لِأَنَّ الْحَرَجَ بِالتَّرْكِ وَاقِعٌ ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ ، وَمَفْسَدَةُ الْعَارِضِ مُتَوَقَّعَةٌ مُتَوَهَّمَةٌ فَلَا تُعَارِضُ الْوَاقِعَ أَلْبَتَّةَ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ وَاقِعًا فَهُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَةُ الْعَوَارِضِ فِيهِ أَتَمَّ مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ الْمُبَاحِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ ، وَالنَّظَرُ فِي هَذَا بَابُهُ بَابُ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا
[ ص: 291 ] يَصِحُّ التَّعَارُضُ ، وَلَا تَسَاوِي الْمَفْسَدَتَيْنِ ، بَلْ مَفْسَدَةُ فَقْدِ الْأَصْلِ أَعْظَمُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُكَمَّلَ مَعَ مُكَمِّلِهِ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَإِذَا كَانَ فَقْدُ الصِّفَةِ لَا يَعُودُ بِفَقْدِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ ، كَانَ جَانِبُ الْمَوْصُوفِ أَقْوَى فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، وَفِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ ، فَكَذَا مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ مَعَ مُكَمِّلَاتِهِ كَالْكُلِّيِّ مَعَ الْجُزْئِيِّ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُلِّيَّ إِذَا عَارَضَهُ الْجُزْئِيُّ فَلَا أَثَرَ لِلْجُزْئِيِّ ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا أَثَرَ لِمَفْسَدَةِ فَقْدِ الْمُكَمِّلِ فِي مُقَابَلَةِ وُجُودِ مَصْلَحَةِ الْمُكَمِّلِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمُكَمِّلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَمِّلٌ إِنَّمَا هُوَ مُقَوٍّ لِأَصْلِ الْمَصْلَحَةِ وَمُؤَكِّدٌ لَهَا ; فَفَوْتُهُ إِنَّمَا هُوَ فَوْتُ بَعْضِ الْمُكَمِّلَاتِ ، مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْمَصْلَحَةِ بَاقٍ ، وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ ، كَمَا أَنَّ فَوْتَ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ لَا يُعَارِضُهُ بَقَاءُ مَصْلَحَةِ الْمُكَمِّلِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ـ وَهُوَ أَنْ لَا يُضْطَرَّ إِلَى أَصْلِ الْمُبَاحِ وَلَا يَلْحَقَ بِتَرْكِهِ حَرَجٌ ـ ; فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ ، وَفِيهِ تَدْخُلُ قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ ; فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِبَارِ ،
[ ص: 292 ] وَمِنْهُ مَا فِيهِ خِلَافٌ كَالذَّرَائِعِ فِي الْبُيُوعِ ، وَأَشْبَاهِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الذَّرَائِعِ أَيْضًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا قَاعِدَةُ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ ، وَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ .
وَمَجَالُ النَّظَرِ فِي هَذَا الْقِسْمِ دَائِرٌ بَيْنَ طَرَفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا ; فَإِنَّ أَصْلَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى أَوِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مُكَمِّلٌ لِمَا هُوَ عَوْنٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الذَّرَائِعِ ، وَيُقَابِلُهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ أَصْلُ الْإِذْنِ الَّذِي هُوَ مُكَمَّلٌ لَا مُكَمِّلٌ .
وَلِمَنْ يَقُولُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَنَّ أَصْلَ الْإِذْنِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى ضَرُورِيٍّ ; إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ ـ الَّتِي هِيَ تَخْيِيرٌ ـ حَقِيقَةٌ تُلْحَقُ بِالضَّرُورِيَّاتِ ، وَهِيَ أُصُولُ الْمَصَالِحِ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْخَادِمِ لَهَا ، إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ إِيَّاهَا ، فَاعْتِبَارُ الْمُعَارِضِ فِي الْمُبَاحِ اعْتِبَارٌ لِمُعَارِضِ الضَّرُورِيِّ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي التَّفْصِيلِ كَوْنُهُ ضَرُورِيًّا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; صَارَ جَانِبُ الْمُبَاحِ أَرْجَحَ مِنْ جَانِبِ مُعَارِضِهِ الَّذِي لَا يَكُونُ مِثْلَهُ ، وَهُوَ خِلَافُ الدَّلِيلِ .
وَأَيْضًا ; إِنْ فُرِضَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِمُعَارِضِهِ الْمُكَمِّلِ ، وَأُطْلِقَ هَذَا النَّظَرُ أَوْشَكَ أَنْ يُصَارَ فِيهِ إِلَى الْحَرَجِ الَّذِي رَفَعَهُ الشَّارِعُ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ ; إِذْ عَوَارِضُ
[ ص: 293 ] الْمُبَاحِ كَثِيرَةٌ ، فَإِذَا اعْتُبِرَتْ فَرُبَّمَا ضَاقَ الْمَسْلَكُ ، وَتَعَذَّرَ الْمَخْرَجُ ، فَيُصَارُ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ .
وَلَمَّا كَانَ إِهْمَالُ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ هُوَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى ذَلِكَ لَمْ يَسُغِ الْمَيْلُ إِلَيْهِ ، وَلَا التَّعْرِيجُ عَلَيْهِ .
وَأَيْضًا ; فَإِذَا كَانَ هَذَا الْأَصْلُ دَائِرًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا ، وَتَعَارَضَا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنِ الْمَيْلُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْآخَرِ ، وَلَا دَلِيلَ فِي أَحَدِهِمَا إِلَّا وَيُعَارِضُهُ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ ، فَيَجِبُ الْوُقُوفُ إِذًا ; إِلَّا أَنَّ لَنَا فَوْقَ ذَلِكَ أَصْلًا أَعَمَّ ، وَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20579أَصْلَ الْأَشْيَاءِ إِمَّا الْإِبَاحَةُ ، وَإِمَّا الْعَفْوُ ، وَكَلَاهُمَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ فَكَانَ هُوَ الرَّاجِحَ .
وَلِمُرَجِّحِ جَانِبِ الْعَارِضِ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ مُخَيَّرٌ فِي تَحْصِيلِهَا وَعَدَمِ تَحْصِيلِهَا ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الضَّرُورِيَّاتِ ، وَهِيَ كَذَلِكَ أَبَدًا لِأَنَّهَا مَتَى بَلَغَتْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ لَمْ تَبْقَ مُخَيَّرًا فِيهَا ، وَقَدْ فُرِضَتْ كَذَلِكَ ; هَذَا خَلْفُ . وَإِذَا تَخَيَّرَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا ; فَذَلِكَ قَاضٍ بِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي تَحْصِيلِهَا ، وَجَانِبُ الْعَارِضِ يَقْضِي بِوُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ تَوَقُّعِهَا ، وَكِلَاهُمَا صَادٌّ عَنْ سَبِيلِ التَّخْيِيرِ فَلَا يَصِحُّ ، ـ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ـ أَنْ تَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهَا ، وَذَلِكَ مَعْنَى اعْتِبَارِ الْعَارِضِ الْمُعَارِضِ دُونَ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ أَصْلَ الْمُتَشَابِهَاتِ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا الْأَصْلِ ; لِأَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهَا أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ; غَيْرَ أَنَّ تَوَقُّعَ مُجَاوَزَتِهَا إِلَى غَيْرِ الْإِبَاحَةِ هُوَ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ ، فَنَهَى عَنْ مُلَابَسَتِهَا ، وَهُوَ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ مَرْجُوعٌ إِلَيْهِ فِي أَمْثَالِ
[ ص: 294 ] هَذِهِ الْمَطَالِبِ ، وَيُنَافِي الرُّجُوعَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ .
وَأَيْضًا ; فَالِاحْتِيَاطُ لِلدِّينِ ثَابِتٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ ، مُخَصَّصٌ لِعُمُومِ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إِذَا ثَبَتَ ; فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، فَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْحَظْرِ ، فَلَا نَظَرَ فِي اعْتِبَارِ الْعَوَارِضِ لِأَنَّهَا تَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا ، فَجَانِبُهَا أَرْجَحُ .
وَمَنْ قَالَ : الْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ أَوِ الْعَفْوُ ; فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ بِاتِّفَاقٍ ، بَلْ لَهُ مُخَصِّصَاتٌ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ لَا يُعَارِضَهُ طَارِئٌ وَلَا أَصْلٌ ، وَلَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا بِمَفْقُودَةِ الْمُعَارِضِ ، وَلَا يُقَالُ : إِنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ لِإِمْكَانِ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337396لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=11يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ النِّسَاءِ : 11 ] .
[ ص: 295 ] وَأَوْجُهُ الِاحْتِجَاجِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَثِيرَةٌ ، وَالْقَصْدُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .