الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

وثيقة مؤتمر السكان والتنمية (رؤية شرعية)

الدكتور / الحسيني سليمان جاد

تـقـديـم: بقلم :عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي نزل القرآن تبيانا لكل شيء، هـدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وجعل الإيمان والعمل والتقوى سبيل التنمية، ومناط الكفاية، وأساس الصلاح والإصلاح الاجتماعي والسياسي، كما شرعه الإسلام، فحقق بذلك التلازم، وأعاد التوازن المفقود، بين القيم الروحية الإيمانية، وبين القيم الاجتماعية والاقتصادية، الاستهلاكية منها والإنتاجية، وحل المعادلة الصعبة، وخلص الإنسان من التبعثر والانشطار الثقافي، وعالج مشكلة القلق على الرزق، والخوف من المصير، وبذلك وفر جهد الإنسان، وحمى طاقاته من الهدر والتبديد والضياع، وصرفها ووجهها إلى الموقع المجدي المنتج، ضمن مقدور الإنسان واستطاعاته، حتى لا يدع ما يملكه من الإرادة والحرية والفاعلية والقدرة، إلى ما لا يملكه ويستطيعه، فيعيش حياة الضنك والقلق والبؤس والإحباط واليأس والضياع.

قال تعالى: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) (الأعراف : 96) .

وقال تعالى : ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) (نوح : 10 -12) . [ ص: 9 ]

وقال تعـالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) (الذاريات : 22 -23) .

وقال تعـالى: ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ) (آل عمران: 145) .

وقال تعالى : ( لكل أجل كتاب ) (الرعد : 38) .

فجعل قضية الرزق والأجل، اللذين هـما مصدر الخوف والقلق، أمرا محققا، وواقعا مقدورا، ودلل على ذلك بشواهد مادية وواقعية في ذات الإنسان، لعل من أبرزها قضية النطق واللغة، التي تلازم حياة الإنسان، وكيف أنها تتحصل بتحريك اللسان والشفتين، وهواء الزفير والشهيق، كما أن الرزق المقسوم حقيقة كالنطق، لكنه لا يتحصل إلا بتعاطي الأسباب، للوصول إليه وتحققه.. أما بسطه وقدره فليس بإرادة الإنسان، لذلك جاءت التعاليم والضوابط الشرعية في معظمها منصبة على تحرير وسائل الكسب المشروع وغير المشروع، ووسائل الإنفاق المشروع وغير المشروع أيضا، واعتبر الانضباط بالضوابط الشرعية سبيلا مأمونا للرزق.

والصلاة والسلام على المنقذ من الضلال، المبعوث رحمة للعالمين، الذي بصر الأمة بما كان من أحوال الأمم السابقة، لتأخذ العبرة، وتحقـق الوقايـة، وبما يمكن أن يلحقها من إصابات إن هـي غفلت عن مقتضيات إيمانها وعقيدتها، لتأخذ حذرها، وتبصر مستقبلها، وتفر إلى الله، فتنفر للجهاد.

( فقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر المهاجرين: خصال خمس، إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن [ ص: 10 ]

- لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا،

- ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم،

- ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا،

- ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم،

- وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ، ويتحروا فيما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم. )
(رواه ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر ، وصححه الشيخ الألباني ) .

وبعـد:

فهذا كتاب الأمة الثالث والخمسون: (وثيقة مؤتمر السكان والتنمية.. رؤية شرعية) للدكتور الحسيني سليمان جاد ، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في العودة بالأمة إلى ينابيع التلقي الأولى، في الكتاب والسنة، ولتأصيل الرؤية الشرعية، والتحقق بالمرجعية من خلال إدراك أبعاد فقه القرن المشهود له بالخيرية، في محاولة لإعادة الإحياء والبناء» وتحقيق الوقاية الحضارية، التي تحمي القيم الإسلامية من الاستلاب الحضاري، والارتهان الثقافي، [ ص: 11 ] وتنفي البدع الفكرية والسلوكية، ونوابت السوء، وتغلق منافذ الشيطان، ومعابر الغزو الفكري» والتحصن بمعرفة الوحي، حتى يثبت أصلها في الحاضر، ويمتد فرعها في المستقبل، بمأمن من انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الغالين» وبناء النخبة، التي تمثل الطائفة القائمة على الحق، الذي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، لتكون دليل السائرين، وملاذ الحائرين، وبصيرة القادمين، وخميرة الناهضين، ووعاء النقل الثقافي، ومنارة التدين السليم.

وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أن مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد بالقاهرة خلال الفترة من 29 ربيع الأول إلى 8 ربيع الآخر 1415هـ، الموافق 5 -13 أيلول (سبتمبر) 1994م، يعد حلقة في سلسلة متصلة من المؤتمرات التي اتخذت طابعا عالميا، ابتداء من عام 1992م، حيث عقد ما عرف (بقمة الأرض) في ريودي جانيرو في البرازيل، ثم (المؤتمر العالمي حول حقوق الإنسان) في فيينا بالنمسا عام 1993م، و (المؤتمر العالمي للحد من الكوارث الطبيعية) في يوكوهاما في اليابان عام 1994م، و (القمة العالمية للتنمية الاجتماعية) في كوبنهاجن في الدانمارك عام 1995م، و (المؤتمر العالمي الرابع للمرأة) في بكين بالصين عام 1995م، وأخيرا مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، الذي عقد في اسطنبول مطلع حزيران (يونيو) من هـذا العام.

وهذه المؤتمرات، على تنوع طروحاتها، وتعدد أساليبها، ترمي إلى ابتداع أنماط وأشكال جديدة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية، تحطم الحواجز الأخلاقية، وتعارض القيم الدينية، وتنشر الإباحية باسم الحرية، [ ص: 12 ] وتشجع على التحلل باسم التحرر، حيث لم يكتف واضعو البرامج لهذه المؤتمرات عند حد التشكيك في اعتبار الأسرة هـي الوحدة الأساسية للمجتمع، ومطالبة الوالدين بالتغاضي عن النشاط الجنسي للمراهقين عن غير طريق الزواج، واعتبار ذلك من الشئون الشخصية أو من الحرية الشخصية، التي لا يحق لأحد أن يتدخل فيها، ولكنهم قفزوا فوق الكثير من الضوابط والقيم الدينية الأخرى أيضا، ليقرروا بأن مفهوم الأسرة بالمعنى الذي يشرعه الدين ليس إلا مفهوما عقيما، وقيدا على الحرية الشخصية، لأنه لا يتقبل العلاقات الجنسية الحرة بين مختلف الأعمار، ويشترط أن تكون بين ذكر وأنثى فقط، وضمن الإطار الشرعي، ولأنه لا يمنح الشواذ حقهم في تكوين أسر بينهم، ويتمسك بالأدوار النمطية للأبوة والأمومة والعلاقات الزوجية ضمن الأسرة، معتبرين أن ذلك مجرد أدوار وأشكال لا تخرج عن كونها مما اعتاد الناس ودرجوا عليه وألفوه، حتى دخل في طور التقاليد المتوارثة.. لذلك حاولوا الترويج والإقرار لأنماط أسرية بديلة، دون أدنى اعتبار للنواحي الشرعية والقانونية والأخلاقية، مثل زواج الجنس الواحد، والمعاشرة بدون زواج، وإعطاء الجميع حقوقا متساوية، ووضع سياسات وقوانين تقدم دعما تأخذ في الاعتبار تعددية أشكال الأسر، إضافة إلى الدعوة إلى تحديد النسل باسم تنظيم النسل، وتشجيع موانع الحمل، وتيسير سبل الإجهاض.

والقضية التي لا بد أن نسارع إلى طرحها والتأكيد عليها، أن الأسرة في الحضارة الغربية تكاد تكون انتهت تقريبا، وتحللت من كل القيود والضوابط الخلقية، والروابط الاجتماعية، والعلاقات الأسرية والزوجية على حد سواء، [ ص: 13 ] حتى لقد وصلت إلى مستويات، ترقى عنها وتأنف منها بعض فصائل الحيوانات غريزيا، إلى درجة يمكن معها أن ينال سجل الفضائح الجنسية أكبر الرءوس وأعلى المناصب، حتى بات الاعتراف بالزنا والخيانات الزوجية، والتبجح بذلك في التلفاز وأجهزة الإعلام، على مرأى ومسمع من الناس، أمرا طبيعيا أو أكثر من طبيعي، وأصبحت لتجارة الجنس ومقاولات الدعارة مؤسسات عالمية، تجاوزت البالغين والمراهقين والشاذين من الجنسين، بسبب ما ألحقت من إصابات مرضية رعيبة، لتدخل عالم الاعتداء على الأطفال، الذين لا يحملون هـذه الإصابات، حماية من الأمراض، التي أصبحت من الجوائح التي تهدد البشرية.. أما قضية ملايين المرضى وملايين الشواذ، الذين أثمرتهم مجتمعات الإباحة والقيم الديموقراطية الغربية في المجال الاجتماعي باسم الحرية الشخصية، فحدث ولا حرج.

حتى لقد اعتبر مؤلف كتاب : (أمريكا التي تخيف لا تخيف) ، أن أحد الألغام الاجتماعية الكبرى الثلاثة، التي سوف تنفجر، عاجلا أو آجلا، فتقضي على كل شيء، هـي قضية الجنس، التي تعتمل في داخل المجتمع الأمريكي بقوة، وتقترب به من حافة الانفجار، حيث آثارها الاجتماعية أصبحت ماثلة أمام العيان.

نعود إلى القول : بأن هـذه المؤتمرات، أو هـذه المؤامرات على الإسلام والمسلمين، إن صح التعبير، تعني بالدرجة الأولى استهداف الأسرة المسلمة، لأنها تعتبر من أواخر الحصون الإسلامية التي لـما تسقط بعد، سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو القانوني، لذلك لا بد من إسقاطها وإغراقها [ ص: 14 ] في الفلسفات والممارسات التي سقطت فيها الأسرة في الحضارة والثقافة الغربية، وعند ذلك يتم إحكام السيطرة على الحصن الأخير، والأمل الباقي لغرس القيم والنقل الثقافي والتوارث الاجتماعي، ليمتد التحكم بالنطف والأجنة مستقبلا، إضافة إلى التحكم بالأحياء حاضرا.

ونحن لا ندعي هـنا أن الأسرة بالمفهوم والبعد الإسلامي بشكل عام، نجت من بعض الإصابات والاختراقات، وأن بعض الأسر في العالم الإسلامي أصبحت تمثل النماذج والمعابر الخطيرة لمفاهيم الأسرة وعلاقاتها في الحضارة والثقافة الغربية.

ولكن نقول : إنه بالرغم من بعض الإصابات وبروز بعض النماذج الرديئة المسكونة بالقيم الغربية، التي تولدت بسبب التخاذل، والعجز في الرؤية، وعدم إعطاء المرأة -المحضن الأساس في الأسرة - ما أعطاها الله ورسوله، الأمر الذي أدى إلى الانفجار ومن ثم الانتحار اجتماعيا، والارتماء باتجاه الثقافات الأخرى المدمرة، نقول : إنه بالرغم من ذلك، فإن تلك الصور والنماذج ما تزال تشكل حالات شاذة، ونماذج رديئة ومهمشة خارج الإيقاع العام، وإن الأسرة المسلمة بعمومها حتـى اليـوم، ما تزال إحدى القلاع الأساسية في حماية القيم، والتربية عليها، وممارسة عملية التوارث الاجتماعي.

وبالإمكان القول: إنها المؤسسة التربوية الباقية، التي لا بد من الرجوع إليها، واسترداد دورها، خاصة عند افتقاد المؤسسات التربوية والإعلامية الأخرى جميعا، حيث لا بد، في مرحلة العلو والاستكبار، التي بدأنا نعيشها، من التنبه لدور الأسرة في التحصين والبناء. [ ص: 15 ]

لذلك نرى أن عطاء أو آثار هـذه المؤتمرات على الأسرة في الحضارة الغربية، يكاد يكون معدوما لانعدام وجود الأسرة تقريبا، بالمفهوم الاجتماعي، وأن الأمر المستهدف هـو الأسرة المسلمة، وتعميم حالة الأسرة الغربية عالميا، أو فرض الثقافة والهيمنة الغربية في مجال الأسرة، كغيره من المجالات، في محاولة لفرض الهيمنة في سائر المجالات على الواقع الإسلامي، لأن الأسرة المسلمة ما تزال متميزة، بعيدة عن التناول والتحكم.

قـال تعـالى: ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) (النساء : 89) ، وقال : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة : 217) .

فكلام ربنا هـذا، يقيني خالد، يشكل سننا ماضية، وقوانين اجتماعية تثبتها الوقائع المتعددة.. والأسرة المسلمة اليوم، أصبحت هـي ميدان المواجهة الحقيقي، وساحة المعركة بعد أن احتلت الكثير من الميادين، وسقطت الكثير من الرايات.

لذلك فهذه المؤتمرات أو هـذه المواجهات، لم تتوقف، ولن تتوقف، وهي في النهاية صورة من سنن التدافع الحضاري، التي لا بد من إدراكها، ومعرفة كيفية التعامل معها، والتي أخبر الله عنها بقوله : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحـج: 40) فالاستمـرار في التـدافـع مؤكـد بقـولـه تعـالـى : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) ، (البقرة: 217) ، والصمود وإفشال المؤامرات مؤكد أيضـا بقولـه تعالى : ( لـن يضـروكم إلا أذى ) (آل عمران: 111) ، [ ص: 16 ] لكن ذلك النصر والحصانة، لا تتحقق إلا بعزيمة البشر في التعامل مع السنن الجارية، وليس بالتطلع إلى الأمور الخارقة.. فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، بساحاته وأسلحته المتعددة، لأن العدوان على الأمة وقيمها مستمر إلى يوم القيامة أيضا.

وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أهم الملامح والأهداف التي تسعى لتحقيقها هـذه المؤتمرات جميعا.. ولعل الملمح الأول هـو تحول انعقادها إلى عواصم بلاد المسلمين، في القاهرة ، واسطنبول ، وطرحها الكثير من المفاهيم، التي كانت تبدو مستغربة ومنكرة، إلا أن هـذه المؤتمرات تمارس شيئا فشيئا، عملية التطبيع والقبول لمفاهيمها وطروحاتها.. ذلك أن مجرد الطرح في المرحلة الأولى، يعتبر مكسبا ثقافيا، على الرغم من الادعاء بأنه غير ملزم للدول المشاركة، بهدف تمريره، ورصد ردود الفعل، ومن ثم دراسة ردود الفعل هـذه بدقة، ورسم طريقة للتعامل معها، للانتقال إلى المرحلة التالية، وهكذا يتقدم الشر تدريجيا، ويحتل كل يوم موقعا في الذهنية الإسلامية المستهدفة، ويروج له من قبل المسكونين بالحضارة والثقافة الغربية في العالم الإسلامي.

ولعل أهم قضايا وثيقة مؤتمر السكان -التي عرض لها الكتاب - هـي : الربط بين زيادة السكان وبين الفقر واستحالة التنمية، وأن الحد من النمو السكاني هـو الطريق الأمثل للتنمية وتحقيق الرفاه الاجتماعي، والقضاء على الفقر. لذلك ترى أن السبيل إلى ذلك يتركز في :

1 - إباحة الإجهاض، بجعله قانونيا معتمدا.. وقد حاول واضعو الوثيقة استخدام تعابير متعددة لإباحة الإجهاض، مثل : الحمل غير المرغوب فيه.. [ ص: 17 ] إنهاء الحمل وتخفيف عواقب الإجهاض.. الإجهاض غير المأمون.

2 - تقديم المعلومات والثقافة الجنسية للمراهقين، وإباحة الممارسات الجنسية، وحقهم في سرية هـذه الأمور، وعدم انتهاكها من قبل الأسرة.

3 - التشجيع على الممارسات التي تقع خارج نطاق العلاقات الشرعية.

4 - إلغاء القوانين التي تحد من ممارسة الأفراد لنشاطهم الجنسي، واعتبار ممارسة الجنس والإنجاب حرية شخصية وليست مسئولية جماعية (انظر : تقارير حول الوثيقة، لرابطة العالم الإسلامي) .

والحقيقة التي لا بد من إبرازها هـنا، أن هـذه المؤتمرات، خاصة المؤتمرات المتعلقة بالمرأة، ابتداء من المؤتمر العالمي الأول للمرأة، وكان شعاره : (رفع التمييز ضد المرأة) ، الذي انعقد في مكسيكوستي عام 1975م، ومرورا بمؤتمر كوبنهاجن عام 1980م، ومؤتمر نيروبي 1985م، ومؤتمر السكان والتنمية في القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين 1995م، ووصولا إلى مؤتمر اسطنبول للإسكان والإعمار 1996م، تنطلق من أهداف محددة، وتحكمها فلسفة واحدة، وتلتزم استراتيجية طويلة المدى في تطوير وسائلها، وتستظل بمظلة الأمم المتحدة، وحراسة النظام العالمي الجديد، بكل ما يمتلك من قدرات مالية، وخبرات إعلامية، وسلطان سياسي قاهر، قادر على أن يفرض ما يريد من قيم ومبادئ، تعمل على نسخ ثقافات الشعوب الأخرى وحضاراتها، وتهميشها، لتصبح جزرا صغيرة في المحيط الكبير، القائم على التسلط والإغراق الثقافي، باسم العالمية، دون أن يمثل هـذا النظام الذي تدعى له العالمية، شيئا من المشترك الإنساني. [ ص: 18 ]

وقد يكون من أهم الفروض الثقافية والحضارية على الأمة اليوم، دراسة طروحات هـذه المؤتمرات، وتطورها، ومحاولات الامتداد بها، وتطبيعها في الواقع البشري، دراسة متأنية من مؤسسات متخصصة، لتتبع تطور طروحاتها وتوصياتها وكيفيات التقدم بها، وأساليب فرضها على الشعوب، ورصد مدى البعد والعمق، الذي تحققه في الواقع، على الرغم من تسريب توصياتها ومفهوماتها، تحت شعار : (أنها غير ملزمة للدول المشاركة) ، لأنها في الحقيقة تتفاعل ثقافيا بمساندة ما يتمتع به أصحابها من المال والسلطان السياسي والإعلام، لتشكيل ثقافة العمالة الفكرية.

ولعل من أخطر المعابر إلى الأسرة المسلمة بشكل خاص، والعالم الإسلامي بشكل عام، وبعد أن تصدع الكثير من دفاعات حماية الذات في أكثر من موقع، على يد بعض أهلها، أمام الغلبة الظاهرة بالمال والإعلام والسلطان السياسي، والعلو في الأرض، التي يمتلكها أصحاب الهيمنة الدولية، أو النظام العالمي الجديد، هـو المقاربة بين قيم الحضارة الغربية والقيم الإسلامية، ومحاولة إضفاء المسوغات الشرعية الإسلامية على الوافد الغربي، لتسهيل مرور القيم، والأفكار، وأنماط الحياة الغربية، من خلال القيم الإسلامية نفسها، وإيجاد ثقوب وثغرات في الجدار الواقي، والعمل على إيجاد شريحة من المثقفين غير العلمانيين -بحسب الظاهر، تطرح أسماؤهم، وتمهر كتاباتهم بسمة المفكرين الإسلاميين الكبار، والفقهاء الشرعيين أصحاب الجرأة (!) - للمناصرة والترويج والتسويغ.

ونعتقد أن القضية اليوم، تجاوزت الصورة المعروفة، حيث لم تعد تقتصر على المقاربة والتسويغ والجواز والإباحة، وإنما تجاوزت إلى التأكيد [ ص: 19 ] على أن هـذه القيم الاجتماعية والعادات الوافدة، هـي الدين والإسلام والسنة والحكم الشرعي الصحيح.

وقد تكون المشكلة اليوم، في تكاثر المثقفين المفتين، والمثقفين الفقهاء، الذين يلملمون الآراء من هـنا وهناك، وينتقون منها، ويقطعونها حسب أمزجتهم وأهدافهم، والمهام التي يعملون من أجلها، لتأييد قيم الحضارة الغربية وتسويغها، مصداقا لقوله تعالى : ( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هـو من الكتاب ويقولون هـو من عند الله وما هـو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) (آل عمران : 78) .

لقد تعاظمت اليوم أكثر من أي وقت مضى، القراءات للإسلام بأبجديات ونظم معرفية ومناهج غريبة عنه، بحيث تجاوزت مرحلة ديمقراطية الإسلام، واشتراكية الإسلام، ورأسمالية الإسلام، واليسار الإسلامي، واليمين الإسلامي، إلى خطوة أخطر أثرا، وأبعد مدى هـي : الادعاء والتوهم بإمكانية إضفاء صفة الإسلامية على الفكر الغربي!! ذلك أن المعروف أن الإيمان والإسلام إنما يكون للعلماء، وتشكيل عقولهم في ضوء الرؤية الإسلامية، لينتجوا علوما محكومة بالأهداف والقيم والمنطلقات الإسلامية، وهذا الذي عرفنا في تراثنا وتاريخنا الثقافي والعلمي.. أما محاولات تسويغ الإنتاج الفكري الغربي إسلاميا، وإضفاء صفة الإسلامية على فكر نـاتج عـن عقـل لا يؤمن بالإسلام، فيخشى أن تكون من البدع الفكرية المعاصرة.. ولا ندري كيف يمكن أسلمة فكر له منطلقاته، وفلسفته، وأهدافه، وعقيدته، ومناهجه، وممارساته، ورؤيته، الخاصة به، وعلى الأخص إذا كان بعض من [ ص: 20 ] يقومون بتلك المحاولات هـم من تلامذة الفكر الغربي نفسه، وبضاعتهم في العلوم الشرعية مزجاة؟!

لذلك أعتقد أن هـذه المحاولات عند بعضهم على الأقل، لا تخرج عن بذل الجهد في محاولة استنطاق النصوص المتشابهة في الكتاب والسنة، في ضوء الرؤية والقيم الغربية، واحتضان نماذج من الباحثين والمفكرين، من الذين لا صلة لهم بالفكر والسلوك الإسلامي، والبحث في فكر الفرق والطوائف، والتفتيش في التراث لالتقاط المؤيدات والمسوغات، والتطبيع لهذه الأفكار والطروحات في الداخل الإسلامي.. وهذا العمل سوف يؤدي في تقديرنا إلى إيجاد المشروعية الإسلامية لعمل القائمين على هـذا الأمر، في الداخل الإسلامي، وتمكين هـذه الطروحات والأنماط الحياتية، من الساحة الإسلامية، باسم الإسلام نفسه، خاصة وأن بعض ما توصل إليه الغرب من مناهج العلوم الاجتماعية، المتوقفة عندنا من زمن بعيد، كما هـو معلوم، يعتبر مبهرا.. فالفراغ موجود لامتداد (الآخر) .

لقد كثرت ندوات وجهود الحوار، وعقد المقاربات بين الإسلام والغرب في الآونة الأخيرة، تلك الندوات التي تحدد أهدافها ومحاورها مسبقا، وينتقى الأشخاص المشاركون فيها، أو المساهمون بتحقيق أهدافها، وتنعقد في أجواء من الإرهاب الفكري، واتهام الإسلام والمسلمين بالتطرف والأصولية والعنف.. وما ندري هـل ستؤدي هـذه الندوات والحوارات إلى أسلمة الفكر الغربي أم إلى تغريب الفكر الإسلامي؟!

والقضية الأخطر اليوم -كما نرى - أن يساند هـذا الفكر، ويروج له، حتى يصبح هـو الـمعبر عن الإسلام المعتدل والوسطي، وأن ما عداه يصنف في خانة التطرف والتعصب والأصولية والتمكين للإرهاب. [ ص: 21 ]

لقد أصبح تسويغ الفكر الغربي واعتماده، هـو معيار الاعتدال، وطرح أي فكر أو ثقافة مقابله هـو التطرف والأصولية!

وهذا من أخطر أنواع الارتهان والغزو الذاتي، حيث لم تقتصر خسارتنا وتخلفنا على افتقارنا للأشياء المادية، واستدعائها من (الآخر) ، وهذا بعض المصيبة، وإنما تجاوز أيضا لتهديم عالم أفكارنا، الأصل الباقي، وجعله في خدمة القيم والأفكار الغربية، حتى أصبح شيوع القيم الغربية وفلسفتها في حياتنا وممارساتنا، غير منكور، بل مشروع.. أصبح مفهوم الأسرة، وتحديد النسل، ومنع الحمل، واستسهال الفاحشة، وشيوع الزنا والاغتصاب والشذوذ، وتأخير الزواج، وإقامة العلاقات غير المشروعة، من الحريات الشخصية، بل من الحاجات الضرورية والمألوفة، وعنوان التقدم والحضارة!!

كل هـذا يتم تحت مظلة التخويف من المستقبل، ونضوب الموارد، والدعوة إلى الحيلولة دون تكاثر السكان، الأمر الذي أصبح يشكل ثقافة العصر، وموضوع مؤتمراته.

والتخويف من المستقبل، وربط زيادة السكان بنضوب الموارد ليس جديدا، فقبل مائتي عام، أعلن الراهب (توماس مالتوس) ، الذي ما تزال النظريات السكانية على اختلافها وتنوعها تحمل اسمه، دعوته إلى إيقاف الزيادة السكانية، وإلغاء الزواج، والدعوة إلى العزوبة المتعففة! (الرهبنة) ، لأن البشر -في نظره - يتزايدون ويتضاعفون بنسبة عالية (بما يسمى السلسلة الهندسية) ، أما طاقة الأرض والأرزاق فتتزايد بنسبة محدودة (سلسلة حسابية) .. وأن الحروب والمجاعات والكوارث، هـي رحمة من الله لإعادة التوازن بين الأرزاق والسكان.

كانت تلك الدعوة في عام 1798م، وكان عدد سكان العالم حوالي المليار، أي أقل ست مرات مما هـو الآن، وقد وصل العالم اليوم إلى المليار السادس.. [ ص: 22 ] وقد لا نكون بحاجة إلى بيان الخطأ في نظرية مالتوس، وأبعادها ومنطلقاتها الدينية، التي استخدم العلم مروجا لها، ومفلسفا لمسوغاتها الاقتصادية، الذي أوضحه الواقع، ذلك أن المشكلة الحقيقية من الناحية الاقتصادية، تكمن في سوء التوزيع والظلم الاجتماعي، وليس في نقص الأرزاق، إذ أن 90%من سكان هـذا الكوكب يحلون في خانة الدول الفقيرة، التي لا ينمو فيها إلا التخلف والبؤس والقمع.

لقد افتقد العالم اليوم أخلاقه، حتى بات الإنسان ذئب الإنسان، بعد أن قرر الدين أن الإنسان أخو الإنسان، وغابت الرحمة التي من أجلها جاءت النبوات، وأصبح 80% من ثرواته الطبيعية يتحكم فيها ويستهلكها 20% من سكانه.. و20% من أغنى أغنيائه يمتلكون 83% من العائد، بينما 20% من أفقر فقرائه يمتلكون 1.4% فقط.. وجاءت النتيجة المباشرة لهذا الانقسام، أن 40.000 شخص يموتون كل يوم من سوء التغذية أو المجاعة.

إن الدول الغنية المسيطرة سياسيا وإعلاميا، والتي تعاني من نقص السكان والخوف والهجرة، هـي التي صنعت هـذه المشاكل، خاصة مشاكل الفقر والبطالة، التي يعاني منها مئات الملايين من أبناء دول العالم النامي، وعملت على إغراقه بالديون، ليبقى متواكلا يعيش على المساعدات، ولا تقوم له قائمة، ويكون مستعدا لكل الحلول المطروحة (انظر كتاب : العالم في سباق نحو الهاوية، لروجيه جارودي ) .

وقضية أخرى، نعتقد أن التفكير فيها أصبح فريضة عينية بالنسبة للقادرين عليها، وهي محاولة رؤية المقاصد، وإيجاد المخارج المطلوبة للحال التي نحن عليها، ذلك أن معظم الإنتاج الفكري والثقافي الإسلامي، أو بعبارة أدق : النشاط الذهني للمسلمين، يغلب عليه الفكر الدفاعي، [ ص: 23 ] أو يمثل المواجهة والموقف الدفاعي، أو هـكذا كان قدر هـذا القرن، الذي شهد سقوط الخلافة والاستعمار الحديث، واحتلال فلسطين ، حتى وصل الأمر إلى محاولة احتلال الأفكار ونسخ الثقافات.. ولا يخرج هـذا الكتاب، الذي عرض لوثيقة مؤتمر السكان والتنمية، وكل ما صدر من الفتاوى والدراسات عن الأزهر الشريف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ورابطة العالم الإسلامي، والهيئة العامة للإفتاء، إلى جانب الأنشطة الفكرية على مستوى الأفراد، في أعقاب مؤتمر السكان والتنمية، وغيره من المؤتمرات، عن أن يصنف في إطار الموقف الدفاعي، ويمثل الفكر الدفاعي.

والمؤتمرات مستمرة، كما أسلفنا، والمشكلات التي تطرحها على العالم الإسلامي مستمرة أيضا، ولا تزال تسلمنا قضية إلى أخرى، ويستمر الموقف الدفاعي مستغرقا لمعظم الأنشطة والطاقات الإسلامية.

وهذا الموقف على ضرورته وأهميته في حماية الذات، والحفاظ على الهوية، إلا أنه في عمومه لا يخرج عن رد الفعل، الذي قد يتحول من حل إلى مشكلة، وحالة من افتقاد التوازن، وضبط النسب، والحيلولة دون امتلاك القدرة على الإبصار السليم للمستقبل وحسن التخطيط والإعداد له، وتوزيع الجهد على المواقع المتعددة، ذلك أن الفكر الدفاعي مهما كان ضروريا ونافعا، فهو يعني فيما يعني، أن الخصم هـو الذي يتحكم بساحة النشاط الفكري للأمة، ويحددها مسبقا، وكلما كادت الأمة أن تنتهي من مشكلة، ألقى إليها الخصم بمشكلة أخرى، وهكذا يصبح نشاط الأمة محكوما ومتوفرا على ما يلقى إليها.

وعلى الرغم مما يشكل طرح المشكلات على الأمة، وغزوها الثقافي، من استفزاز وتحد، ويؤدي إلى شحذ للطاقات وإعادة الفاعلية والإحياء، والعودة إلى التثبت بالذات، حماية من الاقتلاع، إلا أن عدم القدرة [ ص: 24 ] على الإفادة من ذلك، للتحول إلى تحقيق المقاصد والأهداف وإعادة البناء، وتجاوز الواقع، وتنمية الذات وبنائها، إلى جانب حمايتها، قد يعيق الأمة عن أي تغيير أو إنجاز مأمول، لأن درء المفاسد أو الموقف الدفاعي يعني في النهاية حماية الواقع والقبول به، والحيلولة دون امتلاك القدرة على التغيير، وجلب المنافع.. وكأن المطلوب هـنا بإلحاح، التحول من فقه المخارج، بما يحمل من مسوغات وذرائع، إلى فقه المقاصد، بما يستدعي من إعداد واستعداد، وتخطيط، وإرادة للتغيير.

والحقيقة التي نلمحها من طريقة القرآن والسنة في بناء الأمة المسلمة، وكيفيات التعامل مع خصومها من أعداء الدين في الخارج الإسلامي، أو مع رصيدهم من المنافقين في الداخل الإسلامي -بطروحاتهم المتعددة - وما تحقق من الإنجاز الحضاري، سواء في مرحلة الدعوة أو مرحلة الدولة على سواء، أن القرآن الكريم وبيانه النبوي، لم يوظف نصوصه كلها للرد على تمحلات واتهامات المشركين ورصيدهم من المنافقين، وطلبهم المزيد من المعجزات، وطرحهم الكثير من الاتهامات، ولو كان ذلك كذلك، لجاءت نصوصه كلها في الإطار الدفاعي، ولما كان هـناك مجال أو تفرغ لأي بناء أو إنجاز حضاري، ولكان التنزيل وإلى حد بعيد، محكوما برغائب وطروحات المشركين، لا يخرج عن معالجتها، أو الرد عليها. ولا يتسع المجال هـنا للإتيان بالأدلة الكثيرة على هـذا.

لا شك أن القرآن الكريم، لم يهمل تفنيد ادعاءات المشركين، ويكشف مكر المنافقين ودخائل نفوسهم، ويدافع عن الحق الذي جاء به، بالقدر الكافي، لكن ذلك الموقف الدفاعي لم يستغرق جميع آياته، وإنما تجاوز ادعاءاتهم وطروحاتهم إلى عملية التنمية والبناء والإنجاز الحضاري.. [ ص: 25 ] طرح من الردود والأدلة ما هـو كاف لمن يريد الاستدلال، والاقتناع، ومن ثم تجاوز من لج في شركه وطغيانه، لأن المشكلة أصبحت في نفس المستدل، وليس في نقص الدليل.. تجاوز إلى بناء الأمة، التي لا تؤثر فيها طروحات الأعداء.. وقد يكون البناء والتنمية هـما خير رد وخير سبيل، حتى لخدمة أهداف الموقف الدفاعي نفسه، بل هـي موقف الدفاع الحقيقي.

ولعل الأزمة أو المشكلة في هـذا الموضوع، كامنة في التشكيل الذهني لمسلمي اليوم، وغياب ثقافة التخصص التي تقتضي تقسيم العمل، وغياب المؤسسات المتخصصة في التخطيط والتنفيذ معا، في الحماية والتنمية على حد سواء.. لذلك نجد معظم العاملين في الحقل الإسلامي -وقد يكون هـذا من مقتضيات الموقف الدفاعي أو من إفرازاته - يدعون المعرفة في كل شيء، والقدرة على كل شيء، والخوض في كل المجالات، والتعرض لمعالجة كل المشكلات.. فإذا طرحت مشكلة، يخوض فيها ويتصدى لها من يحسن ومـن لا يحسـن.. من يفقـه ومـن لا يفقه.. المتخصص، والمدعي، حتى ولو كانت من أدق المسائل.

أصبحنا نفتقد المعرفة التخصصية وأخلاق المعرفة أيضا، فكل إنسان منا فقيه، ومفكر، وخطيب، وكاتب، وراوية، وشاعر، وداعية، ومدرس، ولغوي، وصحفي، وعالم نفس، وخبير إدارة واقتصاد واجتماع، ومقاتل.. هـو يحسن كل شيء! لذلك ترى الرصيد، هـذا الركام والتكـديـس والـغـثـاء الثـقـافي الـذي لا يمكث شـيء منـه فـي الأرض! وما حصل ذلك إلا بسبب غياب التخصص، والتحقق بالمعرفة، والتحلي بخلق المعرفة.. من هـنا تختل النسب، ونستنفر جميعا لكل قضية، حتى الكثير من المتخصصين يغادرون تخصصاتهم ويؤثرون الدخول في ثقافة الغثاء.. وتستنزف طاقتنا في فراغ، باسم حماية الذات والدفاع عنها، فنرجع إلى الذات التي ندافع عنها، فلا نجدها. [ ص: 26 ]

إن ضغط الموقف الدفاعي أو الفكر الدفاعي بشكل أعم، هـو الذي حال بيننا وبين تأصيل فكرة التخصص وتقسيم العمل وتحقيق الإبداع والإتقان، وحسن اختيار وسائل الدفاع المناسبة، وأعجزنا عن الإحاطة بعلم القضايا والمشكلات المطروحة، واختيار الآلية، أو الوسائل المناسبة للتعامل معها، مما جعل هـذا العجز أو اليأس يوقعنا في التوهم بأن الحل دائما في المواجهة، دون النظر لإمكاناتنا وإمكانات خصمنا، والتقدير الدقيق لما نقدم عليه، لذلك أصبحت الحسابات الإقليمية والدولية تصفى بدمائنا وجهودنا أو جهادنا، وأصبح من السهل استثارتنا واستفزازنا وتوظيفنا في الوقت المناسب لصالح (الآخر) .

وأعتقد أنه لا سبيل إلى الخروج من المأزق، ولا بديل لنا عن التخصص وتقسيم العمل، بحيث ينفر من كل فرقة منا طائفة ليتفقهوا في الدين، بالمعنى الواسع للفقه، حتى إذا ما جاءنا أمر من الأمن أو الخوف، لا نقتصر على الإذاعة به (الموقف الدفاعي) ، وإنما نرده إلى قيم ومعايير الكتاب والسنة، ورؤية الخبراء والمختصين، حتى نحيط بعلمه، وندرك سنته، ونضع خطة لكيفية التعامل معه.

قال تعالـى : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء : 83) .

وقد يكون المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، العودة إلى المرأة، التي كانت قضيتها ووضعها، المدخل أو المعبر لكثير من المشكلات، والاعتراف بأننا أوتينا من قبلها، لأن الكثيـر منـا لم يعطهـا ما أعطاها الله.. [ ص: 27 ] لا بد من العودة إلى هـذا الموقع، إلى المرأة، وإعادة تأهيلها، وإعداد قيادات نسائية فقيهة، مستوعبة للإسلام، يتحقق فيهن الانتماء والالتزام، قادرات على الحضور الإسلامي في كل المواقع الفكرية والاجتماعية، ومحاولة الخروج بثقافتنا من النفق والخارطة الفكرية التي فرضت علينا لأكثر من قرن، وما نزال نتحرك ضمن حدودها، قضية الحجاب، والتعدد، والطلاق، والإرث، والشهادة -مع أن هـذه القضايا أصبحت محسومة - لإبراز دور المرأ ة في الحياة الإسلامية، كما لا بد من العودة إلى الأسرة، المحضن الحقيقي للتربية، والحصن الباقي للأمة.

والكتاب الذي نقدمه اليوم، لم يأت متأخرا، لأن القضية التي يعرض لها ممتدة، والحلقات متواصلة، والطروحات ذاتها مستمرة، لكن بأشكال وألوان مختلفة.. وكل مؤتمر يفيد من طروحات من سبقه ويرصد ردود الفعل، ويفكر كيف يتعامل معها، وما هـي المفاهيم التي آن الأوان لإشاعتها.. إنها حقبة التحول من حصار الأوطان الإسلامية، بعد أن أحكمت القبضة السياسية والاقتصادية عليها، إلى حصار الأفكار والقيم الإسلامية.

وتأتي أهمية الكتاب في أنه يقدم مجموعة من الأحكام الفقهية المتخصصة وفلسفتها، فيما يخص الأسرة، والأحكام الشرعية للإصابات التي يمكن أن تلحق بها، مما يشكل رؤية إسلامية تحصينية ضد استهداف الأسرة، ومحاولة العبث فيها، وتفكيكها، أو إعادة تشكيلها على غيـر ما شرع الله، والحيلولة دون بنائها، وفق الأصول والقواعد الشرعية.

قال تعالى : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) (النساء : 89) .

والله الهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 28 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية