الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فأما من أراد ما يحبه الله تارة وما لا يحبه تارة أو لم يرد لا هذا ولا هذا فكلاهما دون خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن على واحد منهما إثم كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والانتقام المباح كما هو خلق بعض الأنبياء والصالحين فهو وإن كان جائزا لا إثم فيه فخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منه . [ ص: 509 ] وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا جاز العفو وإن كان الانتقام لله أرضى لله . كما هو أيضا خلق بعض الأنبياء والصالحين فهذا وإن كان جائزا لا إثم فيه فخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منه . وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فلا عيب على نبي فيما شرع الله له . لكن قد فضل الله بعض النبيين على بعض ، وفضل بعض الرسل على بعض ، والشريعة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الشرائع ; إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين وأمته خير أمة أخرجت للناس .

                قال أبو هريرة في قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة . يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس فهم خير الأمم للخلق . والخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، وأما غير الأنبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لاتباعه لذلك النبي وأما من كان من أهل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبا عليه وما فعله محرما عليه كان مستحقا للذم والعقاب إلا أن يكون متأولا مخطئا فالله قد وضع عن هذه الأمة [ ص: 510 ] الخطأ والنسيان ، وذنب أحدهم قد يعفو الله عنه بأسباب متعددة .

                ومن أسباب هذا الانحراف أن من الناس من تغلب عليه " طريقة الزهد " في إرادة نفسه فيزهد في موجب الشهوة والغضب كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم وهؤلاء يرون الجهاد نقصا لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال ويرون أن الله لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود لأنه جرى على يديه سفك الدماء .

                ومنهم من لا يرى ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة ومنهم من لا يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى الله بأنه لا يذبح حيوانا ولا يأكل لحمه ولا ينكح النساء ويقول مادحه : فلان ما نكح ولا ذبح . وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء كما في الصحيحين عن أنس : " { أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال : ما بال أقوام قالوا : كذا وكذا لكني أصلي وأنام [ ص: 511 ] وأصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني } " . وقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } نزلت في عثمان بن مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل ونوع من الترهب ، وفي الصحيحين { عن سعد قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا } .

                و " الزهد " النافع المشروع الذي يحبه الله ورسوله هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة الله وطاعته والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر أو زهد فيما لا ينفع فأما الزهد في النافع فجهل وضلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن } " . والنافع للعبد هو عبادة الله وطاعته وطاعة رسوله وكلما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع ثم الأنفع له أن تكون كل أعماله عبادة لله وطاعة له وإن أدى الفرائض وفعل مباحا لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره .

                وكذلك " الورع " المشروع هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو [ ص: 512 ] ما يعلم تحريمه وما يشك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله - مثل محرم معين - مثل من يترك أخذ الشبهة ورعا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينا تحريمه أو يترك واجبا تركه أعظم فسادا من فعله مع الشبهة كمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة .

                وكذلك من " الورع " الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه . وتمام " الورع " أن يعم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين ، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات . ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع . [ ص: 513 ] وكذلك " الزهد والرغبة " من لم يراع ما يحبه الله ورسوله من الرغبة والزهد وما يكرهه من ذلك ; وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم حتى يستولي الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك . وقد قال تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل } .

                يقول سبحانه وتعالى : وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر ، وظهور أهله أعظم من ذلك فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما . وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلما له هو جاهل فإن هذا الحيوان لا بد أن يموت فإذا قتل لمنفعة الآدميين [ ص: 514 ] وحاجتهم كان خيرا من أن يموت موتا لا ينتفع به أحد والآدمي أكمل منه ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك ; لكن ما لا يحتاج إليه من تعذيبه نهى الله عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك وأوجب الله الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح .

                كما في صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إن الله كتب الإحسان على كل شيء : فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته } " . وهؤلاء الذين زهدوا في " الإرادات " حتى فيما يحبه الله ورسوله من الإرادات بإزائهم " طائفتان " : ( طائفة رغبت فيما كره الله ورسوله و الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان . و ( طائفة رغبت فيما أمر الله ورسوله لكن لهوى أنفسهم لا لعبادة الله تعالى وهؤلاء الذين يأتون بصور الطاعات مع فساد النيات كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم " { أنه قيل له : يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا [ ص: 515 ] فهو في سبيل الله } " .

                قال تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وهؤلاء أهل إرادات فاسدة مذمومة فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم . وهم يشبهون اليهود كما يشبه أولئك النصارى . قال تعالى : { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } وقال تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } .

                وقال تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } { ولو شئنا لرفعناه بها } إلى قوله : { واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } فهؤلاء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلال والجهل بالحق . كما قال تعالى : { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } [ ص: 516 ] وكلا الطائفتين تاركة ما أمر الله ورسوله به من الإرادات والأعمال الصالحة مرتكبة لما نهى الله ورسوله عنه من الإرادات والأعمال الفاسدة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية