الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 356 ]

                قالا : لو كان مأمورا به ، لعصى تاركه ، إذ المعصية مخالفة الأمر ، ولتناقض " لأمرتهم بالسواك " ، مع تصريحه بالأمر مؤكدا .

                قلنا : المراد : أمر الإيجاب فيهما .

                التالي السابق


                قوله : " قالا " يعني الكرخي والرازي ، هذا دليل على أن المندوب غير مأمور به ، وهو من وجهين :

                أحدهما : " لو كان " المندوب " مأمورا به لعصى تاركه " لكنه لا يعصي تاركه ، فلا يكون المندوب مأمورا به ، أما الملازمة فلأن " المعصية مخالفة الأمر " لقوله تعالى : أفعصيت أمري [ طه : 93 ] ، والمعنى : عصيتني بمخالفة أمري . فلو كان المندوب مأمورا به ، لعصى تاركه ، لأنه مخالف للأمر ، ومخالف الأمر عاص . وأما أنه لا يعصي بترك المندوب ، فبالاتفاق .

                الوجه الثاني : لو كان المندوب مأمورا به " لتناقض " قوله صلى الله عليه وسلم : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ، " مع تصريحه بالأمر " بالسواك أمرا " مؤكدا " نحو قوله عليه السلام : استاكوا طهروا مسالك القرآن في أحاديث غير ذلك .

                ووجه التناقض : أن " لولا " تقتضي في اللسان امتناع الشيء لوجود غيره ، فقوله : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك يقتضي امتناع أمره لهم بالسواك ، لوجود المشقة عليهم ، فدل على أنه ما أمرهم به . وقوله : استاكوا ونحوه ، تصريح بالأمر به ، [ ص: 357 ] فصار آمرا به غير آمر به وهو عين التناقض ، وإنما لزم هذا التناقض من قولنا : المندوب مأمور به ، فدل على بطلانه ، لأن ملزوم الباطل باطل .

                أما إذا قلنا : إن المندوب غير مأمور به ، لا يلزم هذا التناقض ، لأنا نقول مثلا : السواك مندوب ، وهو غير مأمور به ، فيكون ذلك موافقا لما فهم من قوله : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك من عدم الأمر به .

                قوله : " قلنا : المراد أمر الإيجاب فيهما " . هذا جواب عن الدليلين جميعا .

                وتوجيه الجواب عن الأول أن نقول : قولكم : لو كان مأمورا به ، لعصى تاركه .

                إن عنيتم أن المأمور مطلقا يعصي تاركه فهو ممنوع ، كما أن فاعل المنهي مطلقا لا يلزم أن يكون عاصيا ، بدليل فاعل المكروه . ثم يلزمهم أن المكروه ليس منهيا عنه ، لأنه مقابل المندوب ، وإن عنيتم أن المأمور الجازم يعصي تاركه ، فهو مسلم ، لكن المندوب ليس مأمورا به جزما حتى يعصي تاركه .

                وتوجيه الجواب عن الثاني : أن قوله عليه السلام : لأمرتهم بالسواك المراد به : لأمرتهم أمر إيجاب ، لأنه هو الذي تحصل به المشقة . أما الأمر لا على طريق الإيجاب ، فلا مشقة فيه ، وحينئذ مقتضى الحديث أنه لم يوجبه عليهم ، وذلك لا ينافي تصريحه بالأمر على طريق الندب .

                قلت : مأخذ الخلاف في المسألة تردد المندوب بين الواجب والمباح ، فمن حيث إنه مقتضى ومستدعى ومطلوب ومثاب عليه أشبه الواجب ، فألحق به ، ومن حيث إنه لا عقاب في تركه أشبه المباح ، فألحق به . وقد سبق بيان قصور المندوب والمكروه عن تناول التكليف لهما ، والمادة في الموضعين متقاربة . [ ص: 358 ]

                وقال الكناني : مأخذ الخلاف أن المندوب هل يشارك الواجب في حقيقته ؟

                قلت : وهو ضعيف ، لأنه إن عنى أن بينهما قدرا مشتركا ، فلا نزاع فيه ، وهو الثواب على الفعل ، وإن عنى أنه يشارك الواجب في كمال حقيقته ، فلا نزاع أيضا في عدم ذلك ، وإلا لكان المندوب واجبا . وقد افترقا في العقاب أو الوعيد على الترك وعدمه .

                قال : وفائدة المسألة تظهر في تعيين مجمل قوله عليه السلام : أمرتكم بكذا ، أو قول الراوي عنه : أمر بكذا .

                قلت : يعني إن قلنا : المندوب مأمور به ، كان الأمر المحكي عنه عليه السلام مترددا بين إرادة الوجوب والندب . وإن قلنا : ليس مأمورا به تعين للوجوب .




                الخدمات العلمية