الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1389 [ 709 ] وعن سهل بن أبي حثمة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في الخوف ، فصفهم خلفه صفين ، فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفهم ركعة ، ثم تقدموا ، وتأخر الذين كانوا قدامهم ، فصلى بهم ركعة ، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلم .

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 448)، والبخاري (4131)، ومسلم (841)، وأبو داود (1237 - 1239)، والترمذي (565)، والنسائي (3 \ 170- 171)، وابن ماجه (1259) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (126) ومن باب : صلاة الخوف

                                                                                              قولنا : صلاة الخوف : هي الصلاة المعهودة تحضر والمسلمون متعرضون لحرب العدو ، وقد اختلف العلماء : هل للخوف تأثير في تغيير الصلاة المعهودة [ ص: 469 ] عن أصل مشروعيتها المعروفة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أن للخوف تأثيرا في تغيير الصلاة ، على ما يأتي تفصيل مذاهبهم . وذهب أبو يوسف إلى أنه لا تغيير في الصلاة لأجل الخوف اليوم ، وإنما كان التغيير المروي في ذلك ، والذي عليه القرآن ، خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مستدلا بخصوصية خطابه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة [ النساء : 102 ] قال : فإذا لم يكن فيهم لم تكن صلاة الخوف . وهذا لا حجة فيه لثلاثة أوجه :

                                                                                              أحدها : أنا قد أمرنا باتباعه ، والتأسي به ، فيلزم اتباعه مطلقا ; حتى يدل دليل واضح على الخصوص ، ولا يصلح ما ذكره دليلا على ذلك ، ولو كان مثل ذلك دليلا على الخصوصية ; للزم قصر الخطابات على من توجهت له ، وحينئذ يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها . لكن قد تقرر بدليل إجماعي ; أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع ، وكذلك ما يخاطب هو به ; كقوله تعالى : فإن كنت في شك [ يونس : 94 ] ، يا أيها النبي حسبك الله [ الأنفال :64 ] ونحوه كثير .

                                                                                              وثانيها : أنه قد قال - صلى الله عليه وسلم - : صلوا كما رأيتموني أصلي .

                                                                                              وثالثها : أن الصحابة - رضي الله عنهم - اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة ، وعدوه إلى غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهم أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال ، فلا يلتفت إلى قول من ادعى الخصوصية .

                                                                                              [ ص: 470 ] ثم اختلف الجمهور في كيفية صلاة الخوف على أقوال كثيرة لاختلاف الأحاديث المروية في ذلك ، فلنذكر تلك الأحاديث ، ونذكر مع كل حديث من قال به إن وجدنا ذلك - إن شاء الله تعالى - . فلنبدأ من ذلك بالحديث الأول ; وهو حديث ابن عمر، ومضمونه : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا ، وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ، وصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ، وبه أخذ الأوزاعي وأشهب ، وحكي عن الشافعي . واختلف في تأويل قضائهم ; فقيل : قضوا معا ، وهو تأويل ابن حبيب ، وعليه حمل قول أشهب . وقيل : قضوا مفترقين ; مثل حديث ابن مسعود ، وهو المنصوص لأشهب .

                                                                                              الحديث الثاني : حديث جابر ، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - صفهم صفين خلفه ، والعدو بينهم وبين القبلة ، وصلى بهم جميعهم صلاة واحدة ، لكنه لما سجد ; سجد معه الصف الأول الذي يليه ، وقام الصف المؤخر ، ثم تقدموا وتأخر المقدم ، ثم عملوا بالركعة الثانية كما فعلوا في الأولى . ونحوه حديث ابن عباس . وبهذا قال ابن أبي ليلى ، وأبو يوسف في قول له : إذا كان العدو في القبلة ، وروي عن الشافعي ، واختاره بعض أصحابه وأصحابنا .

                                                                                              الحديث الثالث : حديث سهل بن أبي حثمة ; وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة الأولى ركعة ، ثم ثبت قائما ، فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا ، وصفوا وجاه العدو ، [ ص: 471 ] وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم ركعة ، ثم ثبت جالسا حتى أتموا ، ثم سلم بهم . ونحوه حديث صالح . وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأبو ثور .

                                                                                              الحديث الرابع : حديث أبي سلمة عن جابر : أنه صلى أربع ركعات ، بكل طائفة ركعتين ، وهو اختيار الحسن ، وذكر عن الشافعي ، ورواه غير مسلم من طريق أبي بكرة وجابر . وأنه سلم من كل ركعتين . قال الطحاوي : إنما كان هذا في أول الإسلام ; إذ كان يجوز أن تصلى الفريضة مرتين ، ثم نسخ ذلك .

                                                                                              الحديث الخامس : رواه أبو هريرة ، وابن مسعود : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة التي وراءه ركعة ، ثم انصرفوا ، ولم يسلموا ، فوقفوا بإزاء العدو ، وجاء الآخرون ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، فقضى هؤلاء ركعتهم ، ثم سلموا ، وذهبوا ، فقاموا مقام أولئك ، ورجع أولئك فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا . والفرق بين هذه الرواية ورواية ابن عمر : أن ظاهر قضاء أولئك في حديث ابن عمر في حالة واحدة ، ويبقى الإمام كالحارس وحده ، وها هنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم ، وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود ، وبهذا أخذ أبو حنيفة وأصحابه ، إلا أبا يوسف ، وهو نص قول أشهب من أصحابنا ; خلاف ما تأول عليه ابن حبيب .

                                                                                              الحديث السادس : ذكره أبو داود من حديث ابن مسعود : أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر فكبر [ ص: 472 ] معه الصفان جميعا ، وفيه : أن الطائفة الثانية لما صلت معه ركعة وسلمت ; رجعت إلى مقام أصحابهم ، وجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعة لأنفسهم ، فرجعوا إلى مقام أصحابهم ، وأتم أولئك لأنفسهم .

                                                                                              الحديث السابع : ذكره أبو داود من رواية أبي هريرة : أنها قامت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقابلة العدو وظهورهم إلى القبلة ، فكبر جميعهم ، ثم صلى بالذين معه ركعة ، والآخرون قيام ، ثم قام وذهبت الطائفة التي معه إلى العدو ، وأقبلت تلك فصلى بهم ركعة ، ثم أقبلت الطائفة الأولى ، فصلوا ركعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم ، ثم صلى بهم ركعة ، ثم أقبلت الطائفة الأولى ، فصلت ركعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد ومن معه ، ثم سلم ، وسلموا جميعا .

                                                                                              الحديث الثامن : من حديث عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه كبر وكبرت معه الطائفة التي تليه ، وصلى بهم ركعة وسجدة ، وثبت جالسا ، وسجدوا هم السجدة التي بقيت لهم ، ثم انصرفوا القهقرى ، حتى قاموا من ورائهم ، وجاءت الطائفة الأخرى فكبروا ، ثم ركعوا - يعني لأنفسهم - ، ثم سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني سجدته التي بقيت عليه من الركعة الأولى ، فسجدوا معه ، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأتموا هم السجدة التي بقيت عليهم ، ثم قامت الطائفتان ، فصلى بهم جميعا ركعة كأسرع الإسراع .

                                                                                              الحديث التاسع : حديث ابن أبي حثمة من رواية صالح بن خوات عنه : أن الطائفة الأولى لما صلت ركعتها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم صلت الركعة الأخرى لنفسها [ ص: 473 ] سلمت ، ثم تقدمت ، وجاءت الأخرى . وهذا خلاف الحديث الآخر الذي ذكر فيه آخرا : ثم سلم بهم جميعا . ومن رواية القاسم في حديث ابن أبي حثمة : أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم عند تمام صلاته الركعة الثانية بالطائفة الثانية ، وأتموا بعد سلامه ; خلاف الروايات الأخر عن القاسم ويزيد بن رومان : أنه انتظرهم حتى قضوا ، ثم سلم . وقد اختلف قول مالك في الأخذ برواية القاسم ، أو برواية يزيد . وبرواية القاسم أخذ أكثر أصحاب مالك لصحة القياس : أن القضاء إنما يكون بعد سلام الإمام . وهو اختيار أبي ثور ، واختيار الشافعي في الرواية الأخرى .

                                                                                              الحديث العاشر : ما رواه أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا ، ويؤيده حديث ابن عباس : صلاة الخوف ركعة ، وبه قال إسحاق .

                                                                                              ثم اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث ; فمنهم من ذهب إلى أن هذه الكيفيات كلها جائزة ، وأن الإمام مخير في أيها شاء فعل ، وممن ذهب إليه : أحمد بن حنبل ، والطبري وبعض الشافعية ; قالوا : وقد يجوز أن يكون ذلك في مرات على حسب شدة الخوف ، إلا أن أحمد اختار حديث سهل بن أبي حثمة ، وقال : كلها جائزة ، وذلك على قدر الخوف ، وكل من عين من هذه الكيفيات واحدة فبحسب ترجيح حصل عنده أوجب له المصير إلى ما صار إليه ; ولذلك قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة ، وأشكال متباينة ، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة ، وأبلغ في الحراسة . وذكر ابن القصار : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها في عشرة مواضع ، وذكر غيره : أنه صلاها أكثر من هذا العدد ، ففي حديث ابن أبي حثمة وأبي هريرة وجابر أنه صلاها يوم [ ص: 474 ] ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة ، وهي غزوة نجد وغطفان . وفي حديث ابن عباس : أنه صلاها بعسفان ، ويوم بني سليم . وفي حديث جابر : في غزاة جهينة ، وفي غزاة محارب بنجد . وقد ذكر بعضهم صلاته إياها ببطن نخل على باب المدينة . وعليها حمل بعضهم صلاته بكل طائفة ركعتين . لكن مسلما قد ذكرها في غزوة ذات الرقاع . وذكر الدارقطني : أنه صلى بهم المغرب ثلاثا ، ثلاثا ، وبه قال الحسن والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا ; وهو : أنه يصلي بالأولى ركعتين ، وبالثانية ركعة ، وتقضي ; على اختلاف أصولهم فيه : متى يكون ; هل قبل سلام الإمام أو بعده ؟ على ما تقرر .

                                                                                              وقول ابن عمر : فإن كان خوف أكثر من ذلك ; فصل راكبا أو قائما ، تومئ إيماء : قال في الموطأ : مستقبل القبلة وغير مستقبلها . وبهذا أخذ مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة الفقهاء ، ويشهد له قوله تعالى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ البقرة : 239 ] . قال بعض علمائنا : بحسب ما يتمكن منه . [ ص: 475 ] وقال جماعة من الصحابة والسلف : يصلي في الخوف ركعة ، يومئ فيها إيماء ، وقاله الضحاك ; قال : فإن لم يقدر على ركعة ; فتكبيرتين حيث كان وجهه ، وقال إسحاق : إن لم يقدر على ركعة إنما يصلي سجدة ، فإن لم يقدر فتكبيرة ، وقال الأوزاعي نحوه إذا تهيأ الفتح ، لكن إن لم يقدر على ركعة ولا على سجدة ; لم تجزه التكبيرة ، وأخرها حتى يأمنوا . ومنع مكحول وبعض أهل الشام من صلاة [ ص: 476 ] الخائف جملة متى لم يتهيأ له أن يأتي بها على وجهها ، ويؤخرها إلى أن يتمكنوا من ذلك ، واحتجوا بتأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ، ولا حجة لهم فيه ; لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد ذلك على ما تقدم . واختلف الذين قالوا بجواز ذلك للمطلوب في جواز ذلك للطالب ، فمالك وجماعة من أصحابه على التسوية بينهما ، وقال الشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم : لا يصلي الطالب إلا بالأرض .

                                                                                              ثم اختلفوا فيما يباح له من العمل في الصلاة ; فجمهورهم على جواز كل ما يحتاج إليه في مطاردة العدو ، وما يضطر إليه من ذلك ; من مشي ونحوه ، وقال الشافعي : إنما يجوز من ذلك الشيء اليسير ، والطعنة والضربة ، فأما ما كثر فلا تجزئه الصلاة ، ونحوه عن محمد بن الحسن .




                                                                                              الخدمات العلمية