الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الثاني ، في الكتاب : إذا رضيت بالدين الذي على المحال عليه برئت ذمة غريمك ، ولا يرجع عليه في غيبة المحال عليه أو عدمه ، ولو غرك من عدم تعلمه أو فلس ، فلك طلب المحيل ، ولو لم يغرك لزمتك الحوالة ، ووافقنا ( ش ) وابن حنبل : في البراءة أبدا ، وقال ( ح ) : يرجع في حالتين إذا مات المحال عليه مفلسا ، وإذا جحده وحلف عند الحاكم وليس له بينة ، وللمسألة أصلان أحدهما أن الحوالة تحويل الحق وليس بتبديل ، ولهذا جازت الحوالة بالمسلم فيه وعلى أصلهم [ ص: 250 ] يمتنع ; لأن الاستبدال بالمسلم فيه ممنوع وعند المخالف هي تبديل دين بدين وذمة بذمة وهو غير صحيح ; لأن تبديل الدين بالدين لا يجوز ; ولأن اسم الحوالة من التحويل لا من التبديل ، والأصل الثاني أن الحوالة معاوضة عندنا ، ولهذا أسقطنا المطالبة من الجانبين وقد اتفقنا على تعذر المطالبة والتخفيف بالإبراء ، فدل على انقضاء [ . . . ] وعند المخالفة هي معاوضة غير مقبوضة .

                                                                                                                لنا : قوله - صلى الله عليه وسلم - المتقدم وهو يدل من وجهين : أحدهما أنه أمر باتباع المليء ولم يخص حالة دون حالة ، وثانيهما أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتبر وصف الملاء مع جواز الحوالة على المعسر إجماعا ، فيكون معتبرا في أن لا يدخل على المحال ضرر ، لا في جوازها ، وإنما يحصل له الضرر بعدم الملاية إذا تحول الحق مطلقا ، وأما القياس على ما إذا لم تتغير حاله أو بالقياس على ما إذا فلس في حال حياته ، أو تقول عند تعلق بالذمة فلا ينفسخ بموت صاحبه كموت المشتري مجلسا بل أولى ; لأن دين الثمن ثبت لمعاوضة تنفسخ بهلاك المعوض قبل القبض ، ودين الحوالة لا ينفسخ بهلاك مقابله ، ويؤكده أن دين الحوالة لا يشترط فيه القبض ; لأن القبض والدينية يتضادان ، ولأن فوات الدين بالإفلاس لو وجب الرجوع لكان تعذر استيفائه في وقت استحقاق الاستيفاء ، فثبت حق الفسخ كبدل الصلح ، ولأن البائع له جنس المبيع بالثمن ، فلو أحاله المشتري لزمه تسليم البيع ، وكذلك الضامن من لا يرجع على المضمون حتى يزن ، فلو أحال الضامن المضمون له على غريمه كان له الرجوع ، فصارت حوالة كالوزن ، والوارث لا يتصرف في التركة ، وإذا أحال صاحب الدين أجاز له التصرف أو تعذر استيفاء الحق من المحال عليه فلا يرجع كما إذا هب المحال عليه .

                                                                                                                واحتجوا بأن عثمان رضي الله عنه قضى في رجل أحيل على ذمة فمات المحال [ ص: 251 ] عليه مفلسا أن له الرجوع على المحيل ، وقال : كانوا على مسلم ( كذا ) ، وبالقياس على ما إذا صالح من الدين على عبد فمات العبد قبل القبض ، ولأنه إنما احتال بشرط السلامة ، وهو مقصود العقلاء في العادة ، ولأن إفلاس المشتري بالثمن يوجب الرجوع ، فكذلك إفلاس المحال عليه ; لأنه إنما يجري مجرى الغبن أو الاستحقاق ، فأينما كان فإنه يوجب الرجوع ، ولأن في الحوالة معنى المعاوضة ، لأنها تقبل الفسخ كالإقالة في البيع ، ولأن مقصود الحوالة توثيق الحق ، فإذا أغرم عاد إلى حقه كما لو قبض دينه فوجد زيوفا ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن أحال على مليء ) . دل على اعتبار الملاء في ترتيب الحوالة ; لأن ترتيب الحكم على الوصف يدل على عليته فتكون الملاءة علة ثبوت الحوالة ، وعدم العلة علة لعدم المعلول ، فتعدم الحوالة وتعود لحقه ، فالحديث منقلب عليكم .

                                                                                                                والجواب عن الأول : منع الصحة ، سلمناه لكنه معارض بما روي عن علي رضي الله عنه أنه سأله رجل له حق ، فأحاله ، ثم رجع إليه وزعم أن المحال عليه قد أفلس ، فقال له علي رضي الله عنه : اخترت علينا غيرنا ، ومنعه الحق .

                                                                                                                عن الثاني أن المصالح عليه عين ، والعقود تبطل عند تعذر المعينات ، والحوالة والعقد لا يبطل لتعذر ما في الذمة كالبيع .

                                                                                                                عن الثالث بل دخل على توقع الفلس والموت لا يكون أتم غرضا من المبايع ، ولا يبطل عقده الفلس والموت .

                                                                                                                عن الرابع أن البائع غير شبه ( كذا ) في يده ، فاستصحب ملكه عليه ، إنما عاوض على غير معين ، فاتبعت الذمة عند التعذر ، كالبائع إذا سلم المبيع ثم أفلس المشتري أو مات بعد هلاك العين المبيعة .

                                                                                                                عن الخامس أن ينقض بالفلس في الحياة .

                                                                                                                [ ص: 252 ] عن السادس أن مقصود الحوالة تحول الحق ، وما تحول ، الأصل : عدم رجوعه ، وأما إذا قبضه زيوفا تبين أن المحول لم ينقبض فرجع للذمة كالمسلم إذا قبضه معينا ، فإنه يرجع لذمة المسلم إليه .

                                                                                                                عن السابع أنا بينا أن اشتراط الملاءة لنفي الضرر ، ولا مشروعية الحوالة ، ( كذا ) بدليل جوازها على المعسر إجماعا .

                                                                                                                تفريع : في النكت : إنما فرق بين الحوالة لا ترد إلا إذا غر ، وبين العيب في البيع يرد به غر أم لا ; لأن البيع باب مكايسة فغلظ على البيع ، والحوالة معروف فسهل على المحيل به ، قال التونسي : إذا مات المحال عليه ، فقال المحال : احتاض ( كذا ) على غير أصل ، وقال المحيل : بل على دين ، صدق المحيل ; لأن دعواه أصل الحوالة وظاهرها ، قال : وانظر على هذا لو أحاله ثم أنكر المحال عليه أن يكون عليه دين هل ذلك عيب في الحوالة لقول المحال : لو علمت أنه ليس له بينة ، لما قبلت الحوالة ، أو يقال له أنت فرطت حين أحالك عليه وهو حاضر أن يشهد عليه وهو الأظهر ، فلو كان غائبا لكان للمحال حجة ، فإن مات قبل أن ينكر ينبغي أن يكون غنيا ، وجعل في الكتاب الغرور بالفلس عيبا يوجب الرد ، ولو اطلع البائع على فلس غره به المشتري لم يكن له الرد لتعذر كشف ذم الناس وبيع الدين نادر ، فإنه إذا لم يجز بيع الدين إلا بعد العلم بعدم الغريم وملائه كان عيبا في الحوالة إذا غره ، قال : فانظر على هذا لو لم يغره فوجده خرب الذمة لم تكن له حجة كشراء الدين ، فإنه لا يجوز إلا بعد معرفة ملائه من عدمه ، وفي الموازية : إن أحلت على من ليس لك عليه شيء ، ثم دفعت للمحيل الحق فأفلس ومات فرجع الغريم عليك ، وقال : كانت حمالة ، وقلت : حوالة ، صدق ورجع عليك ، وترجع أنت على الآخذ منك ، ولو أحلت على المودع بالوديعة وضمنها المودع للغريم فوجدها قد ضاعت صدق في الضياع وضمن الطالب لأجل ضمانه لمن [ . . . ] إلا أن يكون [ . . . ] ويرجع المودع عليك ; [ ص: 253 ] لأنه أدى في حقك ما يلزمك ، قال اللخمي : [ . . . ] مالك [ . . . ] الحوالة مع الجهل بذمة المحال عليه ، قال : وله الرجوع مع أنه لم يغره ; لأنه [ . . . . . ] في الذمة ولو علم ذلك لم يحتل ، وإذا فلس المحال عليه بعد الحوالة أو مات أو غاب لم يرجع ، إلا أن يشترط الرجوع قاله المغيرة ، وإن قال : اقبض حقك [ . . . . . ] فإن لم يقبض رجع ; لأنه لم [ . . . . . ] وإنما أراد كفايته المرومة ، ولو قلت لشريكك في المكاتب : خذ هذا النجم أفديك عنه وأنا آخذ النجم الآخر ، ثم فلس ( كذا ) الرد عليه الدين فترجع على صاحبك ; لأنه [ . . . . . ] لا حوالة بل وكالة ابن القاسم ، ولو قلت : واحتال على النجم الآخر لم ترجع .

                                                                                                                تنبيه : الحوالة هي تحويل الحق من ذمة إلى ذمته ، وقد تقدم في كتاب الحمالة حقيقة الذمة ما هي ، هل هي وجودية أم عدمية ، وهل هي حكم شرعي أو وصف حقيقي ؟ وتفصيل أحوالها هنالك .

                                                                                                                الثالث ، في الكتاب : إذا لم يقبض مما أحالك به حتى فلس المحتل لا يدخل غرماؤه معك في ذلك الدين ; لأنه كبيع نفذ .

                                                                                                                الرابع ، في الكتاب : إذا أحالك على من ليس له قبله دين فليست حوالة بل حمالة لها حكم الحمالة ، فإن شرط عليك المحيل [ . . . . . ] فرضيت لزمك أن [ . . . . . ] بعدم الدين ، وإلا فلك الرجوع ; لأنه غرور ، وعن مالك : حرق صحيفتك واتبعني بما فيها من غير حوالة بدين له عليه بل حمالة ، فاتبعه حتى فلس أو مات ولا وفاء له فلك الرجوع على الأول ، قال ابن يونس : لأن المتحمل إنما هو رجل وعد بالسلف ، فليس مخالفا لما تقدم ، وتأول بعضهم حرق صحيفتك [ . . . . . ] أنه حميل ، ولا رجوع له على المحيل ، ومعناه ليس يحتمل إلا أنه كان اشترط أن يبتدأ بطلب المحال عليه فمات معدما رجع على الذي عليه الدين ، وعن مالك : إذا قال : لك علي لمن ليس له عنده إلا بعض الحق تمت الحوالة في قدره ، والباقي في حمالة يتبع أيهما شاء به ، قال محمد : إذا كان له عليه خمسون ، أو أحالك عليه بمائة وعليه [ ص: 254 ] لغريمك مائة ، وترك مائة والحميل غائب ، فالميت يحل ما عليه دين ، ومن الحمالة ، فتخلص غرماؤه بالمائة [ . . . . . ] خمسين نفسها على الحوالة ، والآخر من الحمالة ، فنصيب الحمالة يعين دينا للميت على الحميل الغائب ولكانت عليه بهذه الخمسين التي هي الحمالة ، وهي خمسة وعشرون ، [ . . . . . ] بها أيضا حميل ، وبقي لك على الميت خمسة وعشرون حوالة لا ترجع بها على أحد ، فإذا قدم الغائب أخذت منه الخمسين للحمالة خذها لنفسك والميت ، فترد على الميت منها الخمسة والعشرين التي كنت أخذتها في المحاصة بسبب الحمالة ، والذي كان هذا الميت تضرب فيه أنت بما بقي لك على الميت من الحوالة وهي خمسة وعشرون ; لأنه لم يبق لك من الحمالة شيء ، ويضرب غرماء الميت بما بقي لهم وهو خمسون ، فتأخذ أنت ثلثها وهم ثلثيها ، وإن لم يوجد في مال القادم إلا خمسة وعشرون لزمك نصفها وهو اثنا عشر ونصف إلى الميت فتخلص فيها أنت غرماءك بما بقي لك من الحوالة ، وقد بقي لك من الحوالة خمس وعشرون صار كأنه لم يجب لك عن الميت بالحمالة إلا خمسة وعشرون ، وفيها [ . . . ] أن يحاص فكان بقي لك اثنا عشر ونصف ، إذا صار لكل غريم نصف حقه ، فيعطى مفرد اثنى عشر ونصفا لأنك أخذت خمسة وعشرين [ . . . ] غرماء الميت من ماله فتضرب أنت بما بقي لك من الحوالة خمسة وعشرين ، ومن الحمالة اثني عشر ونصفا فذلك خمسة وثلاثون ونصف فيحاص به [ . . . ] اثني عشر ونصفا [ . . . ] الحمالة ولو لم يوجد له إلا عشرون ، أو كانت هي التي أصابتك في الحصاص ، قال اللخمي : إذا أحالك على غير دين ، وذلك هبة أو تحمل أو سلف ، ثم فلس المحال أو مات ، لا يختلف أنه يبدأ بالمحال عليه ، وفي الهبة قولان قيل : هي بالحوالة كالمقبوضة فيضرب مع الغرماء ، وما عجز لم يرجع وقيل : ليست مقبوضة فلا يضرب ، وهذا مع علم المحال أنه أحيل على غير دين ، فإن لم يعلم رجع الآن ; لأنه عيب في الحوالة ، ولا يطالبه الآن للاختلاف في سقوطها عند الفلس إلا أن [ ص: 255 ] يعلم أن الواهب وهو المحال عليه مأمون الذمة لا يخشى فلسه يرفع إلى حاكم فيحكم بالقول بوجوبه عند الفلس فيسقط العيب ، وإن كان ذلك على وجه السلف فلم يجد عنده شيئا رجع قولا واحدا ، وأما إذا قال : خرق صحيفتك واطلبني ، فهو وعد بالسلف ، فلا يثبت له حتى يعطي ، فإن كان الحميل موسرا فلمن عليه الدين أن يرجع عليه ولا يدخل معه غرماء المحال عليه ; لأن صاحبهم لم يصح منه سلف ، وإن كان الأول معسرا وأحب هذا أن يضرب مع غرماء المحال عليه فله ذلك على القول فيمن أحال على هبة ; لأن هذا وهب منافع ، وأحيل عليه فيها فإن أضرب معهم ثم أيسر غريمه ببعض حقه رجعا جميعا ، فيرجع غريمه بما بقي له ، ويضرب غرماء المحال عليه بما قضي عنه من مال غريمه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية