الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                احتجوا بالقياس على ما إذا أقر بمعروف النسب ، وإذا كذبه المقر له أو كان أبوه نفاه باللعان ، والجامع إلى الأصل المقصود لم يثبت ، فلا يثبت فرعه الذي هو الإرث ، وكذا لو قال : تزوجت هذه ، وكذبته ، لم يثبت الصداق ، والمقصود [ . . . ] هو النسب ، بخلاف الصور المتقدمة ; لأنه لو استلحق ابنا فقد أثبت .

                                                                                                                [ ص: 311 ] نفسه عليه النفقة والميراث وكثيرا من الحقوق مع أن الإقرار لا يوجب حقا للمقر بذلك ، على أن ما عدا النسب غير المعتبر البينة بل لا يقع إلا فيها ، أو يقول : أقر بحق ، فإنه حق لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فإذا لم يثبت أحدهما لا يثبت الآخر ، فأما إذا قال : بعتك هذه السلعة بألف ، وأنكر المشتري ، فإذا لم يثبت الثمن لا يجب عليه تسليم السلعة .

                                                                                                                والجواب عن الأول أن تلك الصورة لم يثبت النسب فيها على الإطلاق لقيام المعارض ، وهاهنا لا معارض ، ولأنه هاهنا فرضه قيام البينة ، ويرق بالإقرار كسائر الأموال ، وقيل : لا يرق لوجود مبطلها ، وأما قولهم إن النسب هو العمارة ، ( كذا ) وما عدا المبتع ( كذا ) فلا يلزم من ضعف أحد الأمرين [ . . . ] بالإقرار ; لأن أسباب إثبات الحقوق والبينات سوى الشرع فيها بين عظيم الحقوق وحقيرها ، فهذا الفرق ملغى بالإجماع .

                                                                                                                عن الثاني أن أحد هذين قد ينفك عن الآخر ، فإن أحد الأخوين قد يرث الآخر من غير عكس لأجل قتل أو رق ، فقد انفك النسب عن الإرث ، وسقط الإرث عن السبب في الزوج والمولى ، قال الطرطوشي : فإذا ترك ابنا واحدا لا وارث له غيره فأقر بأخ لم يثبت نسبه ولا يثبت إلا بقول وارثين عدلين ، فإن كان جميع الورثة غير عدول لم يثبت بإقرارهم ، ووافقنا ( ح ) فإنه لا يثبت بالوارث الواحد ، وإن حاز جميع المال ، وقال : يثبت بوارثين غير معدلين ، وبرجلين وامرأتين ، وقال ( ش ) وابن حنبل : يثبت النسب والميراث للوارث الواحد إذا حاز جميع المال ذكرا كان أو أنثى ، وإن كانوا جماعة لا يثبت إلا بإقرار جميعهم ، ولا يعتبر الأئمة العدالة ، وأصل المسالة أن هذا القول شهادة فتشترط العدالة ، أو إقرار فلا تعتبر العدالة ، كما أنه إثبات نسبه على الغير فتشترط العدالة كالأجنبي ; لأن هذا القول يثبت الحقوق بين الأب والمقر له من النفقة [ . . . ] وسقوط العود في بعض الصور ، أو يقول : إنما يثبت النسب [ ص: 312 ] بمجرد الإقرار ممن يملك نفقته كالأب ، والوارث لا يملك بقيته ، فلا يثبت بإقرار ، أو رجل يملك استلحاق النسب فلا يثبت بإقراره كالأجنبي ، ولأن قبول شهادتهم على خلاف القياس ، لأنها شهادة لهم فيها حظ ، وإنما قبلت استحسانا ، فالإقرار أولى أن لا يقبل .

                                                                                                                احتجوا بما في الصحاح أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ابن وليدة زمعة ، فقال سعد : هو ابن أخي عتبة ، عهد إلي إذا دخل مكة أن آخذ ولده منها ، وأنه ألم بها في الجاهلية ، وقال عبد بن زمعة : بل أخي وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر . فقضى بقول عبد [ . . . ] أن الوارث يقوم مقام الموروث في ديونه ودعاويه وماله ، وعليه فكذلك للنسب ، ولأن ما ثبت بإقرار الاثنين ثبت بالواحد كالميراث والوصية والدين ، أو هو إقرار يثبت به الإرث ، فيثبت به النسب كإقرار الجد بابن ابنه .

                                                                                                                والجواب عن الحديث من وجوه :

                                                                                                                الأول أنه يحتمل أنه ألحقه به خاصة ، وليس في اللفظ عموم يبطل هذا الاحتمال ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لسودة : احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك . وهو ظاهر في عدم إثبات النسب ; لأنه لو أثبته لكان أخا لعبد ، فيكون أخا لسودة .

                                                                                                                الثاني أنه قضى له بالملك ; لأن قوله لك ظاهر في الملك ، وقد روي : هو لك عبد . فصرح بالملك ، ولذلك قال لسودة : احتجبي منه .

                                                                                                                الثالث أنه متروك الظاهر ; لأنه أثبته بقول واحد ، وعندكم لا يثبت إلا بإقرار جميع الورثة ، وسودة من جملة الورثة ولم يعتبر إقرارها .

                                                                                                                الرابع إنما أثبت النسب بالفراش [ . . . ] عبد ، وقد كان يثبت أنها فراشه بإقرار زمعة أنها فراشه ، فيثبت الفراش بقوله والنسب ضمنا ، كما لا يثبت النسب [ ص: 313 ] بشهادة النساء ، وتثبت الولادة بمشاهدتهن ويثبت النسب ضمنا ، والمكاتب يقيم شاهدا واحدا على أداء نجومه ويحلف معه فيصير حرا ، والحرية لا تثبت بالشاهد واليمين ، فإن قيل : كيف يقضي بالملك وعبد بن زمعة ادعى النسب وأقر بالحرية ، وقال صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش . والفراش سبب النساء لا سبب الرق [ . . . ] مترددة بين الاختصاص والملك ، أو هو أخ لك دون غيره فلا يتعين ، وأما قوله في تلك الرواية : هو لك عبد . فعلى حذف حرف النداء ، أي يا عبد ، وقوله احتجبي منه يا سودة . على سبيل الاحتياط لأجل ما رأى من الشبه ، فإن الحكم يتبع السبب لا الدعاوى ، وقوله : الولد للفراش [ . . . ] منه بالإجماع وثبوت حكم الفتيا يتوقف على ثبوت سببها ، فلم قلتم إن سببها . وحذف الأم ( كذا ) ظاهرة في الملك فيتعين ، لا سيما مع ما ذكرناه من القرائن ، وأما حذف حرف النداء فالأصل عدم الحذف ، فيتعين ما ذكرناه ، والحجب للاحتياط لا يستقيم ; لأن السبب إن ثبت فلا احتياط أو لا فتتعين الحجبة وعدم إلحاقها .

                                                                                                                والجواب عن الثاني أن الوارث لو قام مورثه لكان له نفيه أو استلحاقه بعد نفي أبيه له ، وليس فليس ، ولأن الموروث يعترف على نفسه والوارث على غيره ، والاعتراف على الغير غير مقبول .

                                                                                                                عن الثالث أنه يبطل بما إذا أنكر بعضهم ، وبالنصاب في الشهادات يثبت بأكثر من الواحد دون واحد .

                                                                                                                عن الرابع أن أشهب قال : يستلحق الأب والجد ، وعن مالك لا يستلحق الجد فيمنع على هذا القياس ، ثم الفرق أن الجد يستلحق بنفسه وهاهنا بغيره ، فافترقا .

                                                                                                                التاسع قال ابن يونس : إذا قال في صبي إنه ابنه فجمهور المدنيين لا يثبت النسب والاستلحاق إلا أن تكون أم الصبي كانت في ملكه بنكاح أو ملك ، فيكون أصل الحمل في ملكه ، وولد في يديه ، أو بعد خروج الأم من يديه [ ص: 314 ] بما يخرج به مثلها إلى ما يلحق به الأنساب ، وهو خمس سنين بدونه ، أو لم يكن للولد نسب معلوم ، فإن فقد من هذه شرط لم يقبل قوله ، هذا قول الجماعة وأحد قولي ابن القاسم ، ثم رجع إلى قبول قوله ، وإن لم يقبل للأم خبر إذا صدقه الولد ، أو هو صغير في حوزه لا يعرف عن نفسه إلا أن يتبين كذبه ; لأن الظاهر صدقه ، وحمل تصرف المسلمين على وجوه صحته ، وكذبه إما بأنه لا يولد ذلك لمثله ، أو له نسب معروف ، أو الولد محمول من أرض العدو أو بلد يعلم أن الأب لم يدخلها قط ، وتشهد البينة أن أمه لم تزل زوجة فلان غير هذا ، فإن شهدت أنها لم تزل أمة فلان حتى ماتت لا يمنع لاحتمال زواجها أمة ، وإذا أقر بأب وصدقه الأب فهو الفرع المقدم ; لأن بتصديق الأب صار مستلحقا له .

                                                                                                                العاشر قال : إذا أقرت بزوج أو أقر بزوجة وصدقه الآخر صاحبه ، وهما غريبان طارئان قبل قولهما المدنيون ، ولم يكلفا بينة على عقد النكاح سدا لذريعة إباحة الإبضاع بغير سبب شرعي ، وإن أقر الرجل أو المعتق بمعتق أعتقه بثلث وهو الوارث إلا أن يتبين كذبه بأن يعرف ولاؤه لغيره ، أو هو معروف بأصالة الحرية ، ومن أقر بولد ، أو أب أو زوج أو مولى أو رجل بزوجته ، وله وارث معروف ، ذو سهم أو عصبة ، ورث المعروف مع المقر به كما لو ثبت بالسنة .

                                                                                                                الحادي عشر قال : لا يصح عند جميع الناس استلحاق أخ أو ابن أخ أو ابن أب أو جد أو عم أو ابن عم ; لأنه استلحاق بفراش الغير ، ألا ترى أن المرأة لما لم يكن لها فراش ; لأن الفراش لزوجها لم يكن لها استلحاق الولد بخلاف الزوج والمولى والأب والزوجة ، فهؤلاء الأربعة هم الذين يجوز الإقرار لهم كما تقدم ، وحيث لا يثبت فمات المقر أو المقر به ، والميت وارث يحيط بالمال ، فلا شيء للمقر اتفاقا ، وإن فضل شيء عن المعروف فلبيت المال عند المدنيين ، ونقل عن ابن القاسم أن ما فضل للمقر إذا كان عصبة فإن لم يكن له وارث معروف فالمال لبيت مال المسلمين إلا ما نقل عن ابن القاسم ، وقال سحنون [ ص: 315 ] وأصبغ : إذا لم يكن له وارث ورثه المقر ولا يثبت نسب ، فإن أقام بعد ذلك آخر البينة أنه وارث أخذه من المقر ، وعن سحنون نحو الأول .

                                                                                                                الثاني عشر ، قال : إذا ترك ابنا فأقر بأخ له يعطيه نصف جميع المال اتفاقا ، فإن أقر بعد ذلك بأخ آخر قال سحنون : ذلك كولدين ثابتي النسب يقر أحدهما بأخ ثالث لهم يدفع له ثلث ما في يديه ، وكذلك إذا أقر برابع أو خامس يدفع له الذي يستقبل بعد إقراره وعيتك ( كذا ) ما زعم أن له ، قال سحنون : وهو معنى قول ابن مغيرة ; لأن السابق بالإقرار صار كالمتصل بالبينة ، وقال أشهب : لا ينظر في هذا إلى ما يجب للمقر ، بل إلى ما يجب للمقر به ; لأن جميع المال كان في يد المقر ، وكان قادرا على أن يقر له به جميعا ، ولا يتلف على المقر به ثانيا شيء مما يجب ، فإذا أقر ثالثا فقد أقر أن الذي يجب للثالث ثلث جميع المال ، فيدفع ذلك إليه ، ويبقى في يده السدس ، فإن أقر برابع أعطاه من عنده ربع جميع المال ، فيعطيه السدس الذي بيده ، ويغرم له من ماله تمام ربع جميع المال ، وهو أضعف سدس ، وكذلك إن أقر بخامس غرم له من ماله مثل خمس جميع المال ، ثم على هذا سواء كان غرم الأول ما يجب له قبل إقراره بالثاني إن لم يغرم شيئا غرم للأول نقص أم لا ، أقر بالأول عاما بالثاني أم لا ; لأن جميع المال كان في يده فقد أتلف على المقر به الآخر حقه عمدا أو خطا ، وهما موجبان للضمان ، فإن أقر بثالث وأنكر الأول والثاني فعلى مذهب سحنون يقاسم الثالث ما بقي في يده نصفين ، وعلى مذهب أشهب يدفع للثالث مثل نصف جميع المال .

                                                                                                                الثالث عشر قال : إذا أقر بأخ له فقال المقر به : صدق ولكني الوارث وحدي ، يصدق المقر عند أهل العراق ، ويعطيه نصف ما بيده ; لأنه أصله فيقام عليه ، وقال ابن نافع : للمقر به جميع ما بيده لأنهما قد اجتمعا على أن المقر به وارث ، واختلفا في ميراث المقر ، فالجميع عليه أولي ، قال ابن بكر منا : ويحتمل عنده أن للمقر ربع المال والباقي للمقر ، لأنها مسألة نزاع في النصف ، وأما النصف الآخر فقد سلمه المقر للمقر به ، فيقتسم المتنازع فيه بعد [ . . . ] وأما لو [ ص: 316 ] كان المقر ثابت النسب فلا يكون للمقر به إلا نصف المال اتفاقا ، ولو قال : فلانة بنت زوجتي ورثتها وأنت أخوها ترثها معي ، فقال المقر به : أنا أخوها ولكن لست أنت زوجها ، أو قالت امرأة ذلك في بنت إنه زوجها وأن فلانا أخوه ، وحجدها الأخ ، فالمال للأخ في قول أهل العراق ، وعند زفر لا يرث الزوج ولا الزوجة شيئا ولا يصدقان في النكاح إلا ببينة إلا أن يصدقهما الوارث ، والولاء كالزوجة في ذلك ، وليس هذا كالإقرار في الأنساب ، وقال الحسن بن خليفة : حكم الزوج والزوجة وغيرهما في الإقرار سواء ، يأخذ الزوج والزوجة ميراثهما والفاضل للمقر به ; لأن قول القائل : أقبل قول زيد في النكاح دون النسب كقوله أقبله في النسب دون النكاح ، قال ابن بكر وعلى طريق التداعي : للزوج الربع ، وللزوجة الثمن ، والباقي للمقر به .

                                                                                                                الرابع عشر قال : إذا أقر أحد الابنين بثالث ثم أقر الثالث برابع فعلى قول ابن أبي زيد يدفع الابن المعروف إلى الذي أقر به ثلث ما في يديه ، وهو سدس المال ، وقول أهل المدينة ، ثم يعطي الثالث الرابع ربع ما في يديه وهو ثمن ما في يديهما ; لأن الرابع يقول للثالث : لما أقررت لي زعمت أن الواجب لي ربع جميع المال في يد المعروفين في يد كل واحد منهما ثمن المال ، فقد أخذت أنت من الذي أقر لك سدس المال ، وإن أدفعه على إقرارك ثمن المال ، ومعك فضل عن حقك ، وهو ثلث ثمن المال فيصح من أربعة وعشرين ، في يد المنكر اثنا عشر ، وفي يد المقر ثمانية ، وفي يد الثالث ثلاثة ، وفي يد الرابع واحد ، وفي قول يعطي المقر المعروف الذي أقر به وهو الثالث نصف ما في يديه ، وهو ربع المال ، ثم يعطي هذا الثالث للرابع نصف ما في يديه وهو ثمن المال ، يصح من ثمانية وفي يد المنكر أربعة ، وفي يد المقر اثنان وفي يد الثالث واحد وفي يد الرابع واحد .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية