الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 804 ] والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير

                                                          * * *

                                                          بين الله سبحانه وتعالى حقوق الزوجين ، وما لكل واحد منهما على صاحبه ، ثم أحكام الافتراق إن لم تكن المودة سائدة ; وبهذا بين العشرة الحسنة والتسريح بإحسان ، أو الفراق الجميل .

                                                          وبعد بيان حقوق الزوجين في الاجتماع والافتراق ، أخذ سبحانه وتعالى يبين حقوق من كانوا ثمرة لهذا الزواج ، في حالي الاجتماع والافتراق أيضا ، وهذه الآية تبين ذلك ; وقد ذكرت أول حق يتقرر للطفل فور ولادته ; وهو حق التغذية الأولى التي تناسب سنه ، وتكون لحمه ، وتنشز عظمه ; ولذا قال سبحانه وتعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة

                                                          الوالدات : هن الأمهات ، سواء أكن أزواجا لآباء الأولاد أم كن مطلقات منهم ; والتعبير عن الأمهات بالوالدات فيه إشارة إلى أمرين : [ ص: 805 ] أحدهما - أنهن اللائي ولدنهم وكن الوعاء الذي برزوا منه إلى الوجود ، وقد تربوا فيه ومنه تغذوا ، فكان من الحق أن يتغذوا منه حتى يستغنوا عنه ; وفي هذا إيماء إلى وجوب الإرضاع على الأمهات .

                                                          وثانيهما - أن الغذاء الذي يناسب الطفل في مهده هو الغذاء الذي يكون من نوع ما كان يتغذى منه في بطن أمه ; وكان في التعبير بالوالدات إشارة إلى ذلك ; لأن الولادة انفصال الحمل عن أمه وبروزه إلى الوجود ; فهي تشير إلى الصلة بين المكان الذي خرج منه ، وحياته التي يستقبلها ; وذلك إيماء إلى وجوب التناسب بين الحالين ، والتناسب بينهما من حيث الغذاء ، يوجب التجانس بين حالي الغذاء ، وذلك يوحي من جهة ثانية إلى وجوب إرضاع الأم ولدها ، وهو ما سيقت له الجملة السامية .

                                                          وقوله تعالى : يرضعن أولادهن هو أمر جاء على صيغة الخبر ; فمعنى يرضعن أولادهن ليرضعن ; أي عليهن إرضاع أولادهن ; وعبر عن الطلب بصيغة الخبر ; للإشارة إلى أن ذلك الوجوب تنادي به الفطرة ، ويتفق مع طبيعة الأمومة ، وأن الأمهات يلبين الطلب فيه بداع من نفوسهن ; فلذلك عبر بالخبر ، كأن الإرضاع وقع من غير طلب خارجي ، فكان ذلك التعبير مفيدا للأمر التكليفي ، ومقررا للأمر الفطري .

                                                          والفقهاء يقررون أنه مطلوب من المرأة أن ترضع ولدها ، ولكنهم يختلفون في مدى هذا الطلب ; فالحنفية يرون أن هذا الطلب للندب في جملته ، فليس على الأم إرضاع ولدها ، إلا في حال الضرورة ، بأن لم يوجد من يرضعه سواها ، أو لا يلقم الولد إلا ثديها ، أو كان الأب عاجزا عن استرضاع ولده عند ظئر ; إذ لا يملك أجرتها ; وينافي هذا الرأي قوله تعالى : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح [ ص: 806 ] عليكم لأن هذا يفيد أن الأب غير ملزم بالاسترضاع ، بينما رأي الحنفية يفيد بأنه الملزم ، والأم غير ملزمة ولما رأوا ذلك قالوا : إن الأم عليها الإرضاع ديانة لا قضاء .

                                                          والمالكية يرون أن المرأة عليها إرضاع ولدها إلا لعذر ، واعتبر من الأعذار أن تكون من الطبقة التي لا ترضع أولادها عادة .

                                                          وقوله تعالى : حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة يفيد أن الإرضاع اللازم للغذاء لا يتجاوز حولين كاملين ، ووصف الحولين بأنهما كاملان ، للإشارة إلى النهاية الكاملة التي لا يدخلها تجاوز ولا تسامح ، وليتناسب مع قوله : لمن أراد أن يتم الرضاعة وإن بيان الحدود من حيث الابتداء والانتهاء يجب أن يكون دقيقا ، وإن الناس قد يعدون ما دون الحولين إذا كان قليلا كشهر أو نحوه غير ناقص للمدة ، فذكر سبحانه وتعالى وصف الكمال ، لينفي مثل هذا الاحتمال .

                                                          وفي التعبير عن السنة بالحول في هذا المقال ، إشارة إلى معنى دقيق ، يبين أنه في انتهاء السنتين يكون الطفل قد بلغ حد الاستغناء ; ذلك أن كلمة حول تدل على التحول من حال إلى حال ، فيكون التعبير بها مشيرا إلى تحول في مدارج نموه من وقت ظهوره في الوجود ، ورؤيته شمسه ، فإنه ينتقل شهرا بعد آخر في التغذية ، تبعا لنمو قواه ، وحاجة جسمه ، فهو يبتدئ ضعيفا لا يستطيع أن يتناول غذاءه إلا من ثدي أمه ، ثم يتناول غيره قليلا ، ثم يزاد حتى إذا أتى على الحولين حالت الحال ، واستغنى تماما عن الرضاعة ; ولذا قال سبحانه : لمن أراد أن يتم الرضاعة وهذه الجملة السامية تشير إلى أنه قد يستغني الطفل عن أمه قبل الحولين ، وأن من أراد التمام إن وجدت أسبابه يصل إلى نهاية الحولين ، سواء أكان المريد الأب أو - الأم .

                                                          وهذه المدة هي حد لثلاثة أمور عند جمهور الفقهاء :

                                                          أولها - أجرة الرضاعة التي تستحقها الأم ، والتي دل عليها قوله تعالى من بعد وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف

                                                          [ ص: 807 ] وثانيها - على نهاية الوجوب الذي أوجبه الشارع على الأم عند القائلين بأنه يجب عليها قضاء إرضاع ولدها ; وعلى نهاية الوجوب الديني عند الذين لا يفرضون عليها إلا الوجوب الديني دون القضائي .

                                                          وثالثها - أن الرضاع المحرم الذي يكون موجبا لصلة تكون الأنثى فيها حراما كالنسب تماما في كل أحوال التحريم لا يكون إلا في هذين الحولين ; أما بعد ذلك فالرضاع لا يحرم ، وعلى ذلك الرأي جمهور الفقهاء . وقال أبو حنيفة : الرضاع المحرم مدته ثلاثون شهرا ، وأما الرضاع من حيث الأجرة ، ومن حيث الوجوب على الأم ديانة أو قضاء فمدته حولان كنص الآية الكريمة .

                                                          وإن هذا الوجوب الذي أوجبه القرآن الكريم على الوالدة يدل على مقدار عناية الإسلام بالرضاعة ، ومقدار عنايته بتربية الأطفال ، وتغذيتهم ، وعنايته بأجسامهم ، وسلامة دمهم ، فإن لبن الأم هو الغذاء الطبيعي لولدها ، ينمو بنموه ، ويسير من حيث كم الغذاء مع تقدم سن الطفل شهرا بعد شهر ، وهو غذاؤه في بطن أمه ، فيكون هو غذاءه بعد ولادته وإن تعرض الطفل للمراضع يعرضه للأدواء الوراثية تنتقل إليه ، بل يعرضه للأدواء النفسية والعقلية تؤثر فيه ، فإن المرضع تحمل إليه مع اللبن ما في جسمها من عيوب وراثية ، وما في نفسها وعقلها من عيوب أيضا ، وقد أثبتت التجربة أن العيوب النفسية في المرضع تسري إلى من أرضعته ، وتتشربها نفسه ، بل تتكون منها طباعه ، كما تكون من لبنها جسمه .

                                                          ومن عناية الشارع بالرضاعة جعلها من أسباب التحريم ، فيوجد الرضاعة بين الطفل ومن أرضعته وذويها وكل من تلقوا من ثديها صلة تشبه صلة النسب، ولكي يتحرى الآباء من يرضعن أولادهن ، وتتحرى الأمهات من تقمن مقامهن ، أو من يشركنهن في الأمومة الفطرية التي أوجدتها الولادة .

                                                          [ ص: 808 ] وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها في الجملة السامية السابقة نص على واجب الأمهات المشتق من كونهن والدات ; وفي النص واجب يقابله على الآباء لكونهم قد ولد لهم ، فالتعبير عن الأب بقوله تعالى : وعلى المولود له هو في مقابل التعبير عن الأمهات بالوالدات ; وكما أن الأول أوجب عليهن الرضاعة ، فالثاني أوجب على الآباء النفقة ; لأن الولادة لهم ، فالنسب لهم ، والولد تابع تبعية مطلقة لهم ; وكأنه كسب كسبوه ، وغنم غنموه ، فحق عليهم القيام على شئونه ورعايته ، والإنفاق على من خصصت نفسها وخصصتها الفطرة لخدمته ورعايته وتغذيته بلبنها الذي هو در من دمها .

                                                          ويلاحظ هنا عندما أوجب الله سبحانه وتعالى على الآباء الإنفاق على الأمهات اللائي يرضعن أولادهن ، أمران :

                                                          أولهما : أنه قيد الإنفاق بالمعروف ، وهو الأمر الذي يتعارفه العقلاء ، فلا تستنكره العقول ولا يجفوه الذوق السليم بأن يليق بحالها ويكفيها شئونها ، ولا يخرج عن طاقة الأب ، ولا يكلفه شططا ، ويسهل لها الأب ذلك الإنفاق ; فيجيء إليها من غير جهد منها ، ولا إعنات لها .

                                                          ثاني الأمرين : أن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الإنفاق يكون في وضع الرجل فلا يرهقه ، ولا يشق عليه ; ولذا قال : لا تكلف نفس إلا وسعها وهي قضية عامة ، وقاعدة كلية في كل تكليفات الشارع الإسلامي ، يلاحظ فيها أن تكون في وسع المكلف ، وليس معنى الوسع هو الطاقة ، فإن الفرق بينهما كبير ; لأن الطاقة هي أقصى قدرة المكلف بحيث لا يستطيع الأمر إلا بمشقة وجهد ; أما الوسع فهو قدرة المكلف على الأمر ، مع بقاء فضل من جهده ، بحيث لا يستغرق العمل أقصى قدرته ; وقد وضح ذلك المعنى في إيجاز بليغ فجعل مناط التكليف ما تسعه قدرة المكلف ; قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها تنبيها إلى أنه لا يكلف دون ما تنوء به قدرته .

                                                          [ ص: 809 ] وإذا كان الأمر كذلك فكل التكليفات الشرعية يكون في الوسع القيام بها ، بمعنى أنها تؤدى بيسر وسهولة ولا مشقة فيها لمن ذاق طعم الطاعة ، وفهم معناها ; ولذا قال تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

                                                          ولا شك أن الإنفاق على الأم بالمعروف ، هو تكليف بما في الوسع الذي يقوم به المرء بيسر وسهولة ; لأن أساس المعروف ألا يكون فيه غضاضة على المرأة ، وألا يكون شطط على الرجل ; فلا يكلف أحدهما إلا وسعه وما يكون يسرا من أمره .

                                                          ولقد عبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عن الإنفاق بالرزق والكسوة ، أي بالإطعام والإيواء والكسوة ، وعبر في آية الطلاق بالأجرة ، فقد قال الله تعالى : فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن فالأجرة هنالك هي الكسوة والرزق هنا ; وتخالف التعبيران ; لأن كل واحد فيما يناسبه ; فالتعبير بالأجرة ; لأن الكلام في المطلقات ، وما يفرض لهن من نفقة وأمدها ; ثم بين ما يستحق في مقابل الإرضاع إن أرضعن وقد خرجن من بيت الرجل وسلطانه .

                                                          أما في هذه الآية فالكلام في أصل وجوب الإرضاع على الأمهات ، وبيان توزيع التكليفات ; والآية هنا عبر القرآن فيها عن الأم بوصف كونها والدة ، وعلى الأب بوصف كونه مولودا له ، فناسب أن يعبر عن النفقة هنا بالرزق والكسوة لأن مؤدى التعبير الكريم أن الواجبات للطفل موزعة ، والحقوق فيه متقابلة ; فالأم لأنها تفرغت لخدمته ، وقامت على حياطته ، وغذته من لبنها بعد أن غذته من دمها ، وأوجب عليها الشارع ذلك الغذاء - كان على الأب في نظير ذلك أن يكدح ويعمل ليوفر لها رزقها وكسوتها بالمعروف من غير غضاضة ولا شطط .

                                                          لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده هذه الجملة السامية في مقام التعليل للأحكام السابقة الموزعة بين الوالد والوالدة ، والتي أساسها القيام بحق ذلك المخلوق الذي كان كل واحد منهما طريقا لخروجه إلى هذا الوجود الإنساني . والمعنى أنه لا يصح أن يقع ضرر على الأم بسبب ولدها لما لها من حنو وعطف ، فيستغل ذلك الحنو وذلك العطف لإنزال الأذى بها وإعناتها وتكليفها ما ليس في وسعها ، وما [ ص: 810 ] ليس متفقا مع فطرتها ; وكذلك لا يصح أن يقع ضرر بالأب بسبب ولد لأنه يعني بإنباته نباتا حسنا وتنشئته على أكمل وجه ، فيرهق بالمطالب المالية ، ويكلف ما ليس في وسعه أو لا تتسع له قدرته عليه إلا بمشقة وجهد شديد .

                                                          وفي هذه الجملة السامية بحثان لفظيان نقولهما بإيجاز :

                                                          أولهما - أن كلمة لا تضار من مادة المفاعلة من الضرر ، وقد قرئت مرفوعة على معنى نفي الضرر ، ونفي الضرر يقتضي النهي عنه ; وقرئت مجزومة ، وعند الوصل خفف السكون بالفتح على أصل التخلص من التقاء الساكنين ، وإن لم يكن هنا ساكنان ; ولذا قرئ بالسكون ، وقراءة السكون تدل على النهي الصريح .

                                                          ولأن كلمة لا تضار من المفاعلة تصلح أن تكون مبنية للمفعول ; والمعنى في الفرضين واحد ، وهو أنه لا يجوز أن يضر كل واحد منهما صاحبه ، أو يضر من صاحبه بسبب عطفه على ولده وحنوه عليه .

                                                          البحث الثاني - في التعبير بقوله سبحانه ، والدة بولدها ولا مولود له بولده وتقديم الأم على الأب ; فإن ذلك التعبير يشير إلى منزلة الولد من قلب كل منهما ، وأنه قطعة من قلوبهما ; ولا يصح أن يكون مزيد العطف الوالدي سببا في أن يتخذه كل منهما ذريعة لإيذاء الآخر والعبث بحقوقه ، ولإشعارهما بأن الإيذاء باسم الحنو قد يؤدي إلى نقص العطف على الولد ، ولكي يعرف كل منهما أن الولد ولدهما معا ومزيج من جسمهما معا ، فلا يصح أن يتخذ سبيلا للكيد والإعنات والإرهاق ; وقدمت الأم لأن حنوها أشد ، ولأن مظنة إنزال الأذى بها أقرب ، وعلى الوارث مثل ذلك هذه الجملة الكريمة سيقت لبيان من ينفق على الولد إن لم يكن له أب ، أو كان له أب عاجز عن الإنفاق عليه ; فإن الإنفاق في هذه الحال يكون على الوارث الذي يرث الولد إذا مات ; لأن الغنم بالغرم ، فما دام يرثه عند الوفاة إن كان له مال ، فإنه ينفق عليه إذا كان محتاجا عاجزا .

                                                          وفي التعبير بكلمة الوارث بدل كلمة قريب ، إشارة إلى أن الوراثة هي السبب في وجوب تقديم الرزق والكسوة ، لا مجرد القرابة ، أو القرابة المحرمية ; [ ص: 811 ] وعلى ذلك يكون الوجوب تابعا لمقدار الميراث ، ولدرجة التوريث ; لأن الميراث هو السبب في الوجوب ، فيكون الوجوب مشتقا من درجته ومقداره وقوته .

                                                          وفي هذا الكلام الحكيم تنظيم للعلاقات المالية بين الأسرة أو إشارة إليه ; فإنه يوضح أن الحقوق المالية في الأسرة متقابلة ، فمن كان له حق الميراث عليه واجب الإنفاق ; وكأن مال الأسرة شركة بين آحادها يتوارثون المال فيما بينهم ; ويتعاونون في الإنفاق فيما بينهم ; فالقادر ينفق على العاجز ، والغني يمد الفقير بحاجته في موضع الحاجة .

                                                          ولقد فهم الإمام أحمد بن حنبل من هذه الآية أن نفقة القرابة تسير مع الميراث وجودا وعدما ، وقوة في الوجوب ، وتقديرا له ; لأن الميراث جعل أساس الإنفاق بمقتضى نص الآية الكريمة وعلى الوارث مثل ذلك

                                                          وقبل أن نترك الكلام في هذا نشير إلى معنى لفظي أشار إليه النص ، وهو قوله : وعلى الوارث مثل ذلك فإنه أشار إلى أن الوجوب على الوارث هو وجوب بدلي ، أي أن الوارث قام فيه مقام الأب ، والوجوب الأصلي على الأب ; فقد قال في الوجوب على الوارث : مثل ذلك فالتعبير بالمثل يشير إلى أن أصل الوجوب على الأب ; ولذلك قرر أن الأب لا يشاركه أحد في الإنفاق على ولده ، ولو كان يشارك الأب في الميراث من الولد غيره ، فلا تشارك الأب القادر غير العاجز الأم في الإنفاق إذا كانت غنية .

                                                          فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما تبين في سابق النص الكريم أن الحد بالحولين من حيث وجوب الإرضاع ووجوب الإنفاق ليس حدا لازما بل هو حد للكمال لمن أراد أن يتم الرضاعة كما صرح النص الحكيم ; ولذلك كان للأب والأم مجتمعين غير منفرد أحدهما ولا مستبد أن يفطما الطفل قبل هذه المدة ; ولذا سيقت الجملة السامية ، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما أي لا إثم عليهما إن فعلا ذلك ، والفصال هنا هو الفطام ; لأن الفطام يفصل الولد عن ثدي أمه ، ويفصله تدريجيا عن ملازمتها . وإن الفصال لا بد فيه من أمرين : [ ص: 812 ] أحدهما - التشاور فيه بأن يفحصا حال الطفل من حيث قوته وقدرته على الاستغناء عن لبن الأم ، وسلامة جسمه ونموه ، ولا مانع من أن يستعينا في ذلك برأي خبير رشيد وقد أوجب سبحانه وتعالى التشاور عند الفطام ، لأن ذلك سيؤثر في صحته في قابل حياته ، بل ربما أثر في أعصابه ; وإن لذلك خطره وشأنه فوجب التشاور فيه ، والشورى واجبة في كل أمر ذي شأن وخطر .

                                                          وثاني الأمرين اللذين لا بد من وجودهما عند الفطام : أن يكون الفطام بإرادة حرة صريحة واضحة ورضا كامل من كل منهما ; ولذلك أكد الرضا من كل منهما بالذكر مرتين : أولهما أنه قال : فإن أرادا فصالا فأوجب تحقق إرادتهما ، وثانيهما أنه قال : عن تراض أي إرادة حرة صريحة صادرة عن تراض صحيح ليس فيه شائبة إكراه .

                                                          وفي ذلك فوق ما فيه من رعاية مصلحة الطفل احترام لإرادة المرأة فيما يتعلق بطفلها ، وأنها ليست كما مهملا في البيت ، بل لها الرأي بجوار رأي الرجل في أخطر الأمور وأشدها أثرا .

                                                          وإن العناية بأمر الفطام على ذلك النحو تدل على عناية الشارع الإسلامي بالناشئة وتربيتها تربية جسمية وخلقية وعقلية ، فإن العناية بالطفل عناية بجيل كامل من الأمة ، وعلى حسب العناية بالتربية الأولى يكون الجيل من الأجيال .

                                                          وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ما تقدم كان في إرضاع الأم ولدها ، وفيه بيان وجوبه عليها ، وما يقابل ذلك من حق لها على الأب ، وفي هذا الكلام يبين الله الحكم في استرضاع الأب غير الأم ، فبين أن ذلك يكون برضا الأم وقد قال سبحانه : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم أي إن اجتمع رأي الأب ورأي الأم على أن يسترضعوا لولدهما ظئرا ، فلا إثم عليهما في ذلك ، ولكن على الآباء أن يلاحظوا حق ذلك المرضع من الأجرة ; ولذا قال سبحانه : إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف أي سلمتم ما وجب عليكم إعطاؤه بالمعروف أي يكون تقديره بالمعروف بين الناس [ ص: 813 ] الذي يتعارفونه أجرا ، ويكون عطاؤه من غير ممانعة ، ولا مماكسة ، بل بالمعروف الذي لا يستنكره الناس وتقره العقول والأخلاق القويمة ، وهنا بحث لفظي في موضعين :

                                                          أولهما : في قوله تعالى : أن تسترضعوا أولادكم فإن استرضع كما قال الإمام الزمخشري منقول من أرضع ، يقال أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعتها الصبي ، فهي متعدية إلى مفعولين ، كما يقال نجحت الحاجة ، واستنجحته الحاجة ; وفي الآية الكريمة قد حذف أحد المفعولين ، إذ المعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، وحذفه متسق مع السياق الكريم ، لأن الحذف يدل على العموم وعدم تخصيص مرضع دون مرضع ، فإنه عند إرادة الاسترضاع لا يتقيد الأب بواحدة دون الأخرى ما توافرت السلامة فيهن ، ولم ينل الطفل من إحداهن ضرر في جسمه أو خلقه أو أعصابه .

                                                          الموضع الثاني : في قوله تعالى : إذا سلمتم ما آتيتم ففي قوله تعالى ( آتيتم ) ثلاث قراءات : أولاها آتيتم بالمد ، وثانيها من غير مد مع ضم الهمزة ، وثالثتها ( أوتيتم ) والقراءات الثلاث تتلاقى في معنى واحد ، وهو إعطاء الأجرة بالمعروف أي المتعارف كما نوهنا ; وتخريجه على القراءة الأولى ( ما آتيتم ) أي أردتم إيتاءه كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة أي أردتم القيام إلى الصلاة ، وعلى القراءة الثانية " ما أتيتم " أي مما أعطيتم من مال ، لأن أتى تستعمل بمعنى أحسن ، فيقال أتى إليه إحسانا إذا فعله ، وتكون متعدية ، ومنه قوله تعالى : إنه كان وعده مأتيا وعلى القراءة الثالثة ( أوتيتم ) أي أعطيتم المعنى واضح صريح فيها .

                                                          واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة التي تبين واجب الآباء والأمهات نحو الأمانة التي سلمها الله لهم ; ليقدموها للمجتمع الإسلامي غرسا طيبا وجيلا قويا طاهرا ; ذيل تلك الآية الحكيمة بالأمر بتقواه ، والتذكير بأنه علم بكل شيء علم المبصر الذي يرى ; إذ خلجات القلوب في علمه الأزلي المحيط ، كأنها المرئيات المبصرات .

                                                          [ ص: 814 ] ولذلك التذييل الكريم فوائد ثلاث :

                                                          أولاها : تربية المهابة في قلوب المؤمنين ; ليتذكروا الله سبحانه وتعالى في كل أعمالهم الصغيرة والكبيرة ، وليعلموا أن شئون الحياة كلها سواء كان منها ما يتعلق بالأسرة أو ما يتعلق بالمجتمع ، وما يتعلق بالآحاد ، لا تستقيم إلا بمراقبة الله تعالى ، والإحساس بتقواه ، وأنه عليم بما تخفي الصدور وما تكنه القلوب ، وأن من يعمل عملا يعمله كأنه يرى الله ، فإن لم يكن يراه فإن الله سبحانه وتعالى يراه .

                                                          وثانيها : بيان أن العلاقات بين الآباء وأولادهم وأمهاتهم لا يغفل الله عنها ، وسيجزي المحسن إحسانا والمسيء سوءا ، وإن استطاع الرجال أو النساء أن يستطيلوا ويظلموا في الدنيا ، أو يخدعوا القضاء بزور من القول ، فلن يخدعوا الله سبحانه وتعالى ، وهو على كل شيء رقيب ، وسيجزي كلا بما صنع ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

                                                          والثالثة : التذكير بأن شئون الأسرة تقوم على التدين ، لا على الظواهر المادية، فإنه إذا صلحت القلوب استقامت العلاقة بين الرجل وأهله وأولاده ، وإن تقطعت حبال المودة ، وذهبت التقوى من القلوب ، وأقفرت النفوس ، فسيكون الظلم مهما تكن الأحكام ، ومهما يكن القضاء .

                                                          منحنا الله سبحانه رضوانه ، ووهبنا عرفانه ، وأصلح لنا في ذرياتنا ، إنه سميع مجيب الدعاء .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية