الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في الاختلاف

                                                                                                                                                                        فإذا ادعى أنه راجع في العدة ، وأنكرت ، فإما أن يختلفا قبل أن تنكح زوجا ، وإما بعده .

                                                                                                                                                                        القسم الأول : قبله ، فإما أن تكون العدة منقضية ، وإما باقية .

                                                                                                                                                                        الضرب الأول : منقضية وادعى سبق الرجعة ، وادعت سبق انقضاء العدة ، فلهذا الاختلاف صور . إحداها : أن يتفقا على وقت انقضاء العدة ، كيوم الجمعة . وقال : راجعت يوم الخميس ، وقالت : بل يوم السبت ، فثلاثة أوجه . الصحيح الذي عليه الجمهور القول قولها بيمينها أنها لا تعلمه راجع يوم الخميس .

                                                                                                                                                                        والثاني : القول قوله بيمينه . والثالث : قالت : أولا انقضت يوم الجمعة فصدقها ، وقال : راجعت يوم الخميس ، فهي المصدقة . وإن قال هو أولا : راجعتك يوم الخميس فهو مصدق لاستقلاله بالرجعة ، والرجعة تقطع العدة . فإن اقترن دعواهما ، سقط هذا الوجه ، وبقي الوجه الآخر ، وبقي الأولان .

                                                                                                                                                                        الصورة الثانية : أن يتفقا على الرجعة يوم الجمعة ، وقالت : انقضت يوم الخميس [ ص: 224 ] ، وقال : بل يوم السبت ، فهل يصدق بيمينه أم هي ، أم السابق بالدعوى ؟ أوجه ، الصحيح الأول .

                                                                                                                                                                        الثالثة : أن لا يتفقا ، بل يقتصر على تقدم الرجعة ، وهي على تأخرها ، ففيه طرق ذكرناها في آخر نكاح المشرك ، وهنا خلاف آخر حاصله أوجه .

                                                                                                                                                                        أصحها : تصديق من سبق بالدعوى ، فلو وقع كلامهما معا ، فالقول قولها ، والثاني : تصديقها مطلقا ، والثالث : تصديقه ، والرابع : يقرع ويقدم قول من خرجت قرعته ، حكاه القاضي أبو الطيب ، والخامس : يسأل الزوج عن وقت الرجعة ، فإذا تبين وصدقته ، وإلا ثبت بيمينه ، وتسأل عن وقت انقضاء العدة ، فإن صدقها وإلا ثبت بيمينها ، ثم ينظر فيما ثبت من وقتيهما ، ويحكم للسابق منهما ، ولو قال : لا نعلم حصول الأمرين مرتبا ، ولا نعلم السابق ، فالأصل بقاء العدة وولاية الرجعة .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : أن تكون العدة باقية ، واختلفا في الرجعة ، فالقول قوله على الصحيح . وقيل : قولها ، لأن الأصل عدم الرجعة ، فإن أرادها ، فلينشئها .

                                                                                                                                                                        فإذا قلنا بالصحيح ، فقد أطلق جماعة ، منهم البغوي ، أن إقراره ودعواه ، يكون إنشاء ، وحكى ذلك عن القفال ، قال الشيخ أبو محمد : ومن قال به ، يجعل الإقرار بالطلاق إنشاء أيضا ، قال الإمام : هذا لا وجه له ، فإن الإقرار والإنشاء يتنافيان ، فذلك إخبار عن ماض ، وهذا إحداث في الحال ، وذلك يدخله الصدق والكذب ، وهذا بخلافه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : راجعتك اليوم ، فقالت : انقضت عدتي قبل رجعتك ، صدقت هي ، نص عليه ، قال الأصحاب : المراد إذا اتصل كلامها بكلامه ، قالوا : وقوله [ ص: 225 ] " راجعت " إنشاء ، وقولها : " انقضت عدتي " إخبار ، فيكون الانقضاء سابقا على قولها .

                                                                                                                                                                        القسم الثاني : إذا نكحت زوجا بعد العدة ، فجاء الأول وادعى الرجعة في العدة ، فإن أقام بينة ، فهي زوجته ، سواء دخل بها الثاني أم لا ، فإن دخل ، فلها عليه مهر المثل ، وإن لم تكن بينة ، وأراد تحليفها ، سمعت دعواه على الصحيح ، فلو ادعى على الزوج ، ففي سماع دعواه وجهان ، أصحهما عند الإمام : لا ، لأن الزوجة ليست في يده .

                                                                                                                                                                        والثاني : نعم ، لأنها في حبالته وفراشه ، وبهذا قطع المحاملي وغيره من العراقيين . فإذا ادعى عليها ، فإن أقرت بالرجعة ، لم يقبل إقرارها على الثاني ، بخلاف ما لو ادعى على امرأة في حبال رجل أنها زوجته ، فقالت : كنت زوجتك فطلقتني ، فإنه يكون إقرارا له ، وتجعل زوجة له ، والقول قوله في أنه لم يطلقها ، لأن هناك لم يحصل الاتفاق على الطلاق ، وهنا حصل ، والأصل عدم الرجعة ، وتغرم المرأة للأول مهر مثلها ، لأنها فوتت البضع عليه بالنكاح الثاني . وقال أبو إسحاق : لا غرم عليها ، كما لو قتلت نفسها أو ارتدت ، وإن أنكرت ، فهل تحلف ؟ فيه خلاف مبني على أنها لو أقرت هل تغرم ؟ إن قلنا : لا ، فإقرارها بالرجعة غير مقبول ولا مؤثر في الغرم ، فلا تحلف ، والأصح التحليف ، فإن حلفت ، سقطت دعواه ، وإن نكلت ، حلف وغرمها مهر المثل ، ولا يحكم ببطلان نكاح الثاني وإن جعلنا اليمين المردودة كالبينة على قول ، لأنها لا تكون كالبينة في حق المتداعيين .

                                                                                                                                                                        وحكى الإمام وجها أنه يحكم ببطلان نكاح الثاني إذا قلنا : كالبينة ، وإذا قبلنا الدعوى على الزوج الثاني ، نظر ، إن بدأ بالدعوى على الزوجة ، فالحكم كما سبق ، لكن إذا انقضت خصومتهما ، بقيت دعواه على الثاني ، وإن بدأ بالدعوى على الثاني ، فإن أنكر ، صدق بيمينه ، وإن نكل ، ردت اليمين على المدعي ، فإن حلف ، حكم بارتفاع نكاح الثاني ، ولا تصير [ ص: 226 ] المرأة للأول بيمينه ، ثم إن قلنا : اليمين المردودة كالبينة ، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح ، ولا شيء لها عليه ، إلا أن يكون دخل بها ، فعليه مهر المثل ، وإن قلنا : كالإقرار ، فإقراره عليها غير مقبول ، فلها عليه كمال المسمى إن كان بعد الدخول ، ونصفه إن كان قبله . قال البغوي : والصحيح عندي ، أنها وإن جعلت كالبينة لا تؤثر في سقوط حقها من المسمى ، بل يختص أثر اليمين المردودة بالمتداعيين ، فإذا انقضت الخصومة بينهما ، فله الدعوى على المرأة ، ثم ينظر ، فإن بقي النكاح الثاني ، بأن حلف ، فالحكم كما ذكرنا فيما إذا بدأ بها ، وإن لم يبق ، بأن أقر الثاني للأول بالرجعة ، أو نكل وحلف الأول ، فإن أقرت المرأة سلمت إليه ، وإلا فهي المصدقة باليمين ، فإن نكلت فحلف الأول ، سلمت إليه ، ولها على الثاني مهر المثل إن جرى دخول ، وإلا فلا شيء عليه ، كما لو أقرت بالرجعة ، وكل موضع قلنا : لا تسلم إلى الأول ، لحق الثاني ، وذلك عند إقرارها ، أو نكولها ، ويمين الأول ، فإذا زال حق الثاني بموت وغيره ، سلمت إلى الأول ، كما لو أقر بحرية عبد في يد غيره ، ثم اشتراه ، حكم عليه بحريته .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا أنكرت الرجعة ، واقتضى الحال تصديقها ، ثم رجعت ، صدقت في الرجوع ، وقبل إقرارها ، نص عليه ، بخلاف ما لو أقرت أنها بنت زيد من النسب ، أو الرضاع ، ثم رجعت وكذبت نفسها ، لا يقبل رجوعها ، ولو زوجت وهي ممن يعتبر رضاها ، فقالت : لم أرض بعقد النكاح ، ثم رجعت فقالت : رضيت وكنت نسيته ، فهل يقبل رجوعها أم لا ولا تحل إلا بعقد جديد ؟ وجهان : المنصوص الثاني ، نقله القاضي أبو الطيب ، ورجح الغزالي الأول .

                                                                                                                                                                        [ ص: 227 ] فرع

                                                                                                                                                                        طلقها طلقة أو طلقتين ، وقال : طلقتها بعد الدخول ، فلي الرجعة ، فأنكرت الدخول ، فالقول قولها بيمينها . فإذا حلفت ، فلا رجعة ، ولا سكنى ، ولا نفقة ، ولا عدة ، ولها أن تتزوج في الحال ، وليس له أن ينكح أختها ، ولا أربعا سواها ، حتى يمضي زمن عدتها ، ثم هو مقر لها بكمال المهر ، وهي لا تدعي إلا نصفه ، فإن كانت قبضت الجميع ، فليس له مطالبتها بشيء ، وإن لم تقبضه ، فليس لها إلا أخذ النصف ، فإذا أخذته ثم عادت واعترفت بالدخول ، فهل لها أخذ النصف الآخر ، أم لا بد من إقرار مستأنف من الزوج ؟ فيه وجهان حكاهما إبراهيم المروذي . وفي شرح المفتاح لأبي منصور البغدادي : أنه لو كانت قبضت المهر وهو عين ، وامتنع الزوج من قبول النصف ، فيقال له : إما أن تقبل النصف ، وإما أن تبرئها منه .

                                                                                                                                                                        ولو كانت العين المصدقة في يده ، وامتنعت من أخذ الجميع ، أخذه الحاكم ، وإن كان دينا في ذمته ، قال لها : إما أن تبرئيه ، وإما أن تقبليه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ادعت الدخول ، فأنكر ، فالقول قوله ، فإذا حلف ، فلا رجعة ولا نفقة ، ولا سكنى ، وعليها العدة ، فإن كذبت نفسها ، لم تسقط العدة ، وسواء اختلفا في الدخول قبل الخلوة أم بعدها على المشهور ، وحكينا في آخر فصل التعيين قولا أن الخلوة ترجح جانب مدعي الدخول ، فيكون القول قوله بيمينه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 228 ] فرع

                                                                                                                                                                        نص في " الأم " أنه لو قال : أخبرتني بانقضاء العدة ، ثم راجعها مكذبا لها ، ثم قالت : ما كانت عدتي انقضت وكذبت نفسها ، فالرجعة صحيحة ، لأنه لم يقر بانقضاء العدة بل حكى عنها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال المتولي : لو طلق زوجته الأمة ، واختلفا في الرجعة ، فحيث قلنا : القول قوله إذا كانت حرة ، فكذا هنا ، وحيث قلنا : قول الزوجة ، فهنا القول قول السيد ، وقال البغوي : القول قولها ، ولا أثر لقول السيد .

                                                                                                                                                                        قلت : واختار الشاشي ما ذكره المتولي ، وهو قوي . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية