الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2197 ) مسألة : قال : أبو القاسم : ( ومن ملك زادا وراحلة ، وهو بالغ عاقل ، لزمه الحج والعمرة ) وجملة ذلك أن الحج إنما يجب بخمس شرائط : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والاستطاعة . لا نعلم في هذا كله اختلافا .

                                                                                                                                            فأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين ، وقد روى علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : رفع القلم عن ثلاثة ; عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يشب ، وعن المعتوه حتى يعقل } . رواه أبو داود ، وابن ماجه ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . وأما العبد فلا يجب عليه ; لأنه عبادة تطول مدتها ، وتتعلق بقطع مسافة ، وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة ، ويضيع حقوق سيده المتعلقة به ، فلم يجب عليه كالجهاد .

                                                                                                                                            وأما الكافر فغير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء ، ولا يوجب قضاء . وغير المستطيع لا يجب عليه ; لأن الله تعالى خص المستطيع بالإيجاب عليه ، فيختص بالوجوب ، وقال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . ( 2198 )

                                                                                                                                            فصل : وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقساما ثلاثة ; منها ما هو شرط للوجوب والصحة ، وهو الإسلام والعقل ، فلا تجب على كافر ولا مجنون ، ولا تصح منهما ; لأنهما ليسا من أهل العبادات . ومنها ما هو شرط [ ص: 86 ] للوجوب والإجزاء ، وهو البلوغ والحرية ، وليس بشرط للصحة ، فلو حج الصبي والعبد صح حجهما ، ولم يجزئهما عن حجة الإسلام . ومنها ما هو شرط للوجوب فقط ، وهو الاستطاعة ، فلو تجشم غير المستطيع المشقة ، وسار بغير زاد وراحلة فحج ، كان حجه صحيحا مجزئا ، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه ، أجزأه . ( 2199 )

                                                                                                                                            فصل : واختلفت الرواية في شرطين ، وهما ; تخلية الطريق ، وهو أن لا يكون في الطريق مانع من عدو ونحوه . وإمكان المسير ، وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه . فروي أنهما من شرائط الوجوب ، فلا يجب الحج بدونهما ; لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع ، وهذا غير مستطيع ، ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج ، فكان شرطا ، كالزاد والراحلة .

                                                                                                                                            وهذا مذهب أبي حنيفة ، والشافعي . وروي أنهما ليسا من شرائط الوجوب ، وإنما يشترطان للزوم السعي ، فلو كملت هذه الشروط الخمسة ، ثم مات قبل وجود هذين الشرطين ، حج عنه بعد موته ، وإن أعسر قبل وجودهما بقي في ذمته . وهذا ظاهر كلام الخرقي ، فإنه لم يذكرهما ; وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل : ما يوجب الحج ؟ . قال : ( الزاد والراحلة ) . قال الترمذي : هذا حديث حسن .

                                                                                                                                            وهذا له زاد وراحلة ، ولأن هذا عذر يمنع نفس الأداء ، فلم يمنع الوجوب كالعضب ، ولأن إمكان الأداء ليس بشرط في وجوب العبادات ، بدليل ما لو طهرت الحائض ، أو بلغ الصبي ، أو أفاق المجنون ، ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن أداؤها فيه ، والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة ، فيجب المصير إلى تفسيره ، والفرق بينهما وبين الزاد والراحلة ، أنه يتعذر مع فقدهما الأداء دون القضاء ، وفقد الزاد والراحلة يتعذر معه الجميع ، فافترقا .

                                                                                                                                            ( 2200 ) فصل : وإمكان المسير معتبر بما جرت به العادة ، فلو أمكنه المسير بأن يحمل على نفسه ويسير سيرا يجاوز العادة ، أو يعجز عن تحصيل آلة السفر ، لم يلزمه السعي . وتخلية الطريق هو أن تكون مسلوكة ، لا مانع فيها ، بعيدة كانت أو قريبة ، برا كان أو بحرا ، إذا كان الغالب السلامة ، فإن لم يكن الغالب السلامة ، لم يلزمه سلوكه ، فإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة ، فقال القاضي : لا يلزمه السعي ، وإن كانت يسيرة ; لأنها رشوة ، فلا يلزم بذلها في العبادة ، كالكبيرة . وقال ابن حامد : إن كان ذلك مما لا يجحف بماله ، لزمه الحج ; لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها ، فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها ، كثمن الماء وعلف البهائم . ( 2201 )

                                                                                                                                            فصل : والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة . وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والشافعي ، وإسحاق . قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم . وقال عكرمة : هي الصحة . وقال الضحاك : إن كان شابا فليؤاجر نفسه بأكله وعقبه ، حتى يقضي نسكه .

                                                                                                                                            وعن مالك : إن كان يمكنه المشي ، وعادته سؤال الناس ، لزمه الحج ; لأن هذه الاستطاعة في حقه ، فهو كواجد الزاد والراحلة . [ ص: 87 ]

                                                                                                                                            ولنا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ، فوجب الرجوع إلى تفسيره ، فروى الدارقطني ، بإسناده عن جابر ، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأنس ، وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم { سئل ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة . } وروى ابن عمر قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة . } رواه الترمذي . وقال : حديث حسن ، وروى الإمام أحمد ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } { قال رجل : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة } . ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة ، فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة ، كالجهاد ، وما ذكروه ليس باستطاعة ، فإنه شاق ، وإن كان عادة ، والاعتبار بعموم الأحوال دون خصوصها ، كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ، ومن لا يشق عليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية