الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 471 ]

                ثم هنا أبحاث :

                الأول : قيل : هي توقيفية ، وقيل : اصطلاحية ، وقيل : مركبة من القسمين . والكل ممكن ، ولا سبيل إلى القطع بأحدها ، إذ لا قاطع نقلي ، ولا مجال للعقل فيها ، والخطب فيها يسير ، إذ لا يرتبط بها تعبد عملي ، ولا اعتقادي ، والظاهر الأول .

                لنا : وعلم آدم الأسماء كلها ، قيل : ألهمه ، أو علمه لغة من قبله ، أو الأسماء الموجودة حينئذ ، لا ما حدث . قلنا : تخصيص وتأويل ، يفتقر إلى دليل .

                التالي السابق


                قوله : " ثم هنا أبحاث " ، أي : ثم بعد ما قررناه من أحكام اللغات ههنا أبحاث نذكرها إن شاء الله تعالى ، وهي جمع بحث ، وأصل البحث مصدر : بحث يبحث بحثا : إذا أثار التراب ونحوه عن مكان لدفن شيء ، أو الكشف عنه ، ثم استعمل في تعرف الأحكام الشبيه بالحجج التي يطلب بها كشف تلك الأحكام تشبيها لطالب معرفة الحكم بباحث التراب .

                " والأول " : أي : البحث الأول ، " قيل : هي توقيفية " ، إلى آخره .

                أي : اختلف في مبدأ اللغات ، فقيل : هي توقيفية ، أي : عرفت بالتوقيف من [ ص: 472 ] الله سبحانه وتعالى ، وهو مذهب الأشعري وابن فورك وجماعة غيرهما .

                " وقيل " : هي " اصطلاحية " أي : عرفت باصطلاح الناس ، وهو مذهب أبي هاشم وأتباعه .

                " وقيل : مركبة من القسمين " : التوقيف والاصطلاح ، أي : بعضها حصل بالتوقيف ، وبعضها بالاصطلاح .

                ثم فيه قولان :

                أحدهما : أن ابتداء اللغات الذي يحتاج إليه ضرورة التفاهم أولا وقع بالاصطلاح ، والباقي يحتمل التوقيف والاصطلاح .

                والقول الثاني : إن القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاح توقيفي ، والباقي اصطلاحي ، وهذا قول الأستاذ أبي إسحاق .

                قوله : " والكل ممكن ، ولا سبيل إلى القطع بأحدها " .

                أي : هذه الأقوال كلها ممكنة ، ولا دليل على القطع بواحد منها ، إذ ليس فيها قاطع نقلي أنها توقيف أو اصطلاح ، أو مركبة منهما ، والعقل لا مجال له في اللغات ليستدل عليها به .

                قلت : وهذا فيه نظر ، لأن تصرف العقل ونظره إنما يقصر عن وضع اللغات وتخصيص أسمائها بمسمياتها . أما الاستدلال على واضعها ، وكيفية ابتدائها ، فهو أمر نظري لا يقصر العقل عنه ، ولهذا استدل كل قوم على مذهبهم بالنظر العقلي ، أو المركب منه ومن النقل ، نعم إدراكه للحكم في ذلك ليس ضروريا ، فلذلك لم يحصل القطع منه .

                أما دليل إمكان كل واحد من الأقوال المذكورة ، وهو قول القاضي وجمهور المحققين : [ ص: 473 ]

                أما التوقيف : فبأن يخلق الله سبحانه وتعالى في المكلفين علما ضروريا بالألفاظ ومدلولاتها ونسبة بعضها إلى بعض ، فيحصل العلم لهم بها توقيفا .

                وأما الاصطلاح : فبأن يجمع الله سبحانه وتعالى دواعي العقلاء بالاصطلاح على ما يتخاطبون به ، ويعينهم بالتوفيق والسداد ، فيحصل التخاطب بينهم بالاصطلاح ، والقولان الآخران يظهر إمكانهما مما ذكرناه .

                قوله : " والخطب فيها يسير " ، أي : والخطب في هذه المسألة يسير ، أي : أمرها سهل ، حتى لو لم تذكر لم يؤثر في هذا العلم ولا في غيره نقصا ، إذ لا يرتبط بها تعبد عملي ولا اعتقادي ، أي : لا يتوقف عليها معرفة عمل من أعمال الشريعة ، ولا معرفة اعتقاد من اعتقاداتها .

                فإن قلت : فإذا كان أمرها هكذا ، فلم أطنب الأصوليون فيها هذا الإطناب ، مع العلم بأن الكلام فيما لا ينفع ، عبث ؟

                قلنا : لا شك أن كل علم من العلوم ، ففي مسائله ما يجري مجرى الضرورات التي لا بد منها ، وفيها ما يجري مجرى الرياضات التي يرتاض العلماء بالنظر فيها ، فتكون فائدتها الرياضة النظرية لا دفع الحاجة الضرورية ونحن إنما نفينا فائدة هذه المسألة في العمل والاعتقاد لا في العلم على جهة الارتياض ، وهؤلاء الفقهاء يصورون من المسائل في الوصايا والجبر والمقابلة وغيرها صورا يمتنع في العادة - أو يندر - وقوعها ، ويبحثون فيها البحث العريض [ ص: 474 ] الطويل ، وما قصدهم بذلك إلا الارتياض بها ، ليسهل عليهم معرفة المسائل الضرورية ، فهذه المسألة في أصول الفقه من رياضاته . ومسألة الأمر للوجوب أو الفور والنهي يقتضي الفساد ونحوها من ضرورياته .

                قوله : " والظاهر الأول " ، أي : إن حاولنا القطع بأحد الأقوال ، فلا سبيل لنا إليه لما مر ، وإن حاولنا الظن ، فالظاهر القول الأول ، وهو التوقيف ، ولنا على ذلك قوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها [ البقرة : 31 ] ، ووجه دلالته أنه سبحانه وتعالى أخبر أنه علم آدم الأسماء باللام المستغرقة ، وأكدها بلفظ كل ، وذلك يقتضي أنه وقفه عليها ، ثم توارثت ذلك ذريته من بعده بالتلقي عنه ، فلم يحتاجوا إلى اصطلاح كلي ولا جزئي .

                قوله : " قيل : ألهمه " ، إلى آخره .

                هذا اعتراض على دليل التوقيف من جهة الخصم .

                وتقريره : أن الآية ليست نصا في التوقيف ، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى ألهم آدم وضع تلك الأسماء لمسمياتها ، ثم نسب التعليم إلى نفسه سبحانه وتعالى ، لأنه الهادي والمرشد له إليه . ويحتمل أنه علمه لغة كانت قبله اصطلحوا عليها ، فإنه يقال : إنه كان في الأرض قبل خلق آدم أمم ، ولا بد لهؤلاء من لغة يتخاطبون بها ، [ ص: 475 ] فلا يكون تعليمه للغتهم توقيفا ابتداء ، بل إيصالا للغة غيره إليه ، وإخبارا له بها . ويحتمل أنه إنما وقفه على الأسماء الموجودة حينئذ ، كالسماء ، والأرض ، والملائكة ، وما في الجنة والنار ، لا ما حدث من أسماء المسميات بعد ذلك ، فلا يكون التوقيف كليا . وبتقدير هذه الاحتمالات لا يحصل مقصودكم من الآية .

                قوله : " قلنا : تخصيص " ، أي : هذا الذي عارضتم به الآية المذكورة تخصيص لظاهر عمومها ، وتأويل له على ما ذكرتم ، وهو خلاف ظاهرها ، وتخصيص العام وتأويل الظاهر يحتاج إلى دليل يصلح له ، ويكافئه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

                ونحن قد بينا أنه لا قاطع ولا نص في المسألة ، وإنما ادعينا الظن والظهور ، ودليلنا على ما ادعيناه ظاهر عند الإنصاف . والله سبحانه وتعالى أعلم .

                فائدة : إذا ثبت أن اللغة توقيفية ، فإنها لم تقع جملة واحدة ، بل وقف آدم على ما احتاج إليه منها ، ثم كذلك من حدث من بنيه الأنبياء وغيرهم بعده ، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فأوتي منها ما لم يؤته أحد قبله ، ثم قر الأمر قراره ، وختمت به اللغة ، كما ختمت به النبوة . ذكر معنى هذا ابن فارس في كتاب فقه اللغة وسنن العرب المسمى بـ " الصاحبي " .




                الخدمات العلمية