الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 106 ] كتاب حد القذف

                                                                                                                                                                        القذف من الكبائر ، ويتعلق به الحد بالنص والإجماع . ويشترط لوجوب الحد على القاذف كونه مكلفا مختارا ، فلا حد على صبي ومجنون ومكره ، ويعزر الصبي والمجنون الذي له نوع تمييز ، وسواء في هذا المسلم والذمي والمعاهد ، فإن كان القاذف حرا ، فحده ثمانون جلدة ، وإن كان رقيقا ، أو مكاتبا ، أو مدبرا ، أو أم ولد ، أو بعضه حر فأربعون جلدة ، ويشترط كون المقذوف محصنا ، وقد سبق في كتاب اللعان بيان ما يحصل به إحصانه ، ولا يحد الأب والجد بقذف الولد وولد الولد ، وقال ابن المنذر : يحد .

                                                                                                                                                                        قلت : الأم والجدات كالأب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ومن ورث من أمه حد قذف على أبيه ، سقط ، ومن قذف شخصا بزنيتين ، فالمذهب أن عليه حدا واحدا وقد سبق إيضاحه في اللعان ، ولو قال لرجل : يا زانية ، أو لامرأة : يا زاني ، فقد سبق في اللعان أنه قذف ، وكذا لو خاطب خنثى بأحد اللفظتين ، ولو قال له : زنى فرجك وذكرك ، فقذف صريح .

                                                                                                                                                                        ولو قال : زنى فرجك ، أو قال : زنى ذكرك ، قال صاحب " البيان " الذي يقتضيه المذهب أن فيه وجهين ، أحدهما : قذف صريح ، والثاني : كناية ، كما لو أضاف الزنا إلى يد رجل أو امرأة ، وصرائح القذف وكناياته سبقت في اللعان .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        قال الأصحاب : حد القذف وإن كان حق آدمي ، ففيه مشابهة حدود الله تعالى في مسائل :

                                                                                                                                                                        [ ص: 107 ] إحداها : لو قال له : اقذفني ، فقذفه ، ففي وجوب الحد وجهان الأصح : لا ، وقول الأكثرين : لا يجب .

                                                                                                                                                                        الثانية : لو استوفى المقذوف حد القذف ، لم يقع الموقع ، كحد الزنا لو استوفاه أحد الرعية ، وفي وجه ضعيف : يقع الموقع كما لو استقل المقتص بقتل الجاني .

                                                                                                                                                                        الثالثة : ينشطر بالرق كما سبق ، وحقوق الآدمي لا تختلف ، قالوا : لكن المغلب فيه حق الآدمي لمسائل منها : أنه لا يستوفى إلا بطلبه بالاتفاق ، ويسقط بعفوه ، ويورث عنه ، ولو عفا عن الحد على مال ، ففي صحته وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : الصحيح أنه لا يستحق المال . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من التعريض في القذف أن يقول : ما أنا بابن إسكاف ولا خباز ، ولو قال : يا قواد ، فليس صريحا في قذف زوجة المخاطب ، لكنه كناية ، ولو قال : يا مؤاجر ، فليس بصريح في قذف المخاطب على الصحيح الذي قاله الجمهور ، وقال ابن إبراهيم المروذي عن شيخه التيمي : هو صريح في قذفه بالتمكين من نفسه ، لاعتياد الناس القذف به ، وقيل : هو صريح من العامي فقط ، ولو رماه بحجر ، فقال : من رماني فأمه زانية ، فإن كان يعرف الرامي فقاذف ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        الرمي بالزنا لا في معرض الشهادة يوجب حد القذف ، فأما في [ ص: 108 ] معرض الشهادة ، فينظر إن تم العدد وثبتوا ، أقيم حد الزنا على المرمي ، ولا شيء عليهم ، وإن لم يتم العدد ، بأن شهد اثنان أو ثلاثة ، فهل يلزمهم حد القذف ؟ قولان ، أظهرهما : نعم ، وهو نصه قديما وجديدا ; لأن عمر رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا ، ولئلا تتخذ صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في أعراض الناس .

                                                                                                                                                                        ولو شهد على زنا امرأة زوجها مع ثلاثة ، فالزوج قاذف ; لأن شهادته عليها بالزنا لا تقبل ، وفي الثلاثة القولان ، ولو شهد أربع نسوة أو ذميون أو عبيد ، أو فيهم امرأة أو عبد أو ذمي ، فالمذهب أنهم قذفة فيحدون ; لأنهم ليسوا من أهل الشهادة ، فلم يقصدوا إلا العار ، وقيل : فيهم القولان ، وصور الإمام المسألة فيما إذا كانوا في ظاهر الحال بصفة الشهود ، ثم بانوا عبيدا أو كفارا ، ومراده أن القاضي إذا علم حالهم لا يصغي إليهم فيكون قولهم قذفا محضا لا في معرض شهادة .

                                                                                                                                                                        ولو شهد أربعة فساق ، أو فيهم فاسق ، نظر إن كان فسقهم مقطوعا به ، كالزنا والشرب ، فقيل : فيهم القولان ، وقيل : لا يحدون قطعا وهو الأصح عند القاضي أبي حامد ; لأن نقص العدد متيقن ، وفسقهم إنما يعرف بالظن ، والحد يسقط بالشبهة ، وإن كان فسقهم مجتهدا فيه ، كشرب النبيذ ، لم يحدوا قطعا ، وفي معنى الفسق المجتهد فيه ، ما إذا كان فيهم عدو للمشهود عليه ; لأن رد الشهادة بالعداوة مجتهد فيه ، ولو حددنا العبيد الذين شهدوا ، فعتقوا وأعادوا الشهادة ، قبلت ، ولو لم يتم العدد ، فحددنا من شهد ، ثم عاد من يتم به العدد فشهدوا ، لم تقبل شهادتهم ، كالفاسق ترد شهادته ثم يتوب ويعيدها ، لا تقبل ، وهذا الخلاف المذكور هو فيمن شهد في مجلس القاضي ، أما من شهد في غير مجلسه ، فقاذف بلا خلاف ، وإن كان بلفظ الشهادة .

                                                                                                                                                                        [ ص: 109 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو شهد أربعة بالشروط المعتبرة ، ثم رجعوا ، لزمهم حد القذف ; لأنهم ألحقوا به العار سواء تعمدوا أو أخطئوا ; لأنهم فرطوا في ترك التثبت ، وقيل : في حدهم القولان ; لأنهم شهود ، والمذهب الأول ، ولو رجع بعضهم ، فعلى الراجح الحد على المذهب ، وقيل : بالقولين ، وأما من أصر على الشهادة ، فلا حد عليه ، وقيل : بالقولين ، والمذهب الأول ، وسواء الرجوع بعد حكم القاضي بالشهادة وقبله ، ولو شهد أكثر من أربعة ، فرجع بعضهم ، إن بقي أربعة فلا حد على الراجعين ، وإلا فعلى الراجعين الحد .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        شهد واحد على إقراره بالزنا ، ولم يتم العدد ، فطريقان ، أحدهما : في وجوب حد القذف عليه القولان ، والمذهب : القطع بأن لا حد ; لأنه لا حد على من قال لغيره : أقررت بأنك زنيت ، وإن ذكره في معرض القذف والتعيير .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        تقاذف شخصان ، لا يتقاصان ; لأن التقاص إنما يكون عند اتفاق الجنس والصفة ، وقد سبق معظم مسائل الكتاب في كتاب اللعان . وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية