الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

قال : ورياضة خاصة الخاصة : تجريد الشهود ، والصعود إلى الجمع ، ورفض المعارضات ، وقطع المعاوضات .

أما تجريد الشهود ، فنوعان ، أحدهما : تجريده عن الالتفات إلى غيره ، والثاني : تجريده عن رؤيته وشهوده .

وأما الصعود إلى الجمع فيعني به الصعود عن معاني التفرقة إلى الجمع الذاتي ، وهذا يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يصعد عن تفرقة الأفعال إلى وحدة مصدرها .

والثاني : أن يصعد عن علائق الأسماء والصفات إلى الذات ، فإن شهود الذات [ ص: 475 ] بدون علائق الأسماء والصفات عندهم هو حضرة الجمع ، وهذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، لا بد من تحقيقه ، فنقول :

التفرقة تفرقتان : تفرقة في المفعولات ، وتفرقة في معاني الأسماء والصفات ، والجمع جمعان : جمع في الحكم الكوني ، وجمع ذاتي .

فالجمع في الحكم الكوني : اجتماع المفعولات كلها في القضاء والقدر والحكم ، والجمع الذاتي : اجتماع الأسماء والصفات في الذات .

فالذات واحدة جامعة للأسماء والصفات .

والقدر جامع لجميع المقتضيات والمقدورات ، والشهود مترتب على هذا وهذا .

فشهود اجتماع الكائنات في قضائه وقدره وإن كان حقا فهو لا يعطي إيمانا ، فضلا عن أن يكون أعلى مقامات الإحسان ، والفناء في هذا الشهود : غايته فناء في توحيد الربوبية الذي لا ينفع وحده ، ولا بد منه .

وشهود اجتماع الأسماء والصفات ، في وحدة الذات : شهود صحيح ، وهو شهود مطابق للحق في نفسه .

وأما الصعود عن شهود تفرقة الأسماء والصفات وعلائقها إلى وحدة الذات المجردة فغايته أن يكون صاحبه معذورا لضيق قلبه ، وأما أن يكون محمودا في شهوده ذاتا مجردة عن كل اسم وصفة وعن علائقها فكلا ولما .

وأي إيمان يعطي ذلك ؟ وأي معرفة ؟ وإنما هو سلب ونفي في الشهود ، كالسلب والنفي في العلم والاعتقاد ، فنسبته إلى الشهود كنسبة نفي الجهمية وسلبهم إلى الأخبار ، لكن الفرق بينهما أن ذلك السلب في العلم والاعتقاد ، مخالف للحق الثابت في نفس الأمر ، وكذب على الله ، ونفي لما يستحقه من صفات كماله ونعوت جلاله ، ومعاني أسمائه الحسنى .

وأما هذا السلب : فنفي الشعور به للصعود منه إلى الجمع الذاتي مع الإيمان به ، والاعتراف بثبوته ، فهذا لون وذاك لون .

والكمال : شهود الأمر على ما هو عليه ، ويشهد الذات موصوفة بصفات الجلال ، منعوتة بنعوت الكمال ، وكلما كثر شهوده لمعاني الأسماء والصفات كان أكمل .

نعم قد يعذر في الفناء في الذات المجردة ، لقوة الوارد ، وضعف المحل عن شهود معاني الأسماء والصفات .

[ ص: 476 ] فتأمل هذا الموضع ، وأعطه حقه ، ولا يصدنك عن تحقيق ذلك ما يحيل عليه أرباب الفناء من الكشف والذوق ، فإنا لا ننكره ، بل نقر به ، ولكن الشأن في مرتبته ، وبالله التوفيق .

وأما رفض المعارضات فيحتمل أمرين .

أحدهما : ما يعارض شهوده الجمعي من التفرقات ، وهو مراده .

والثاني : ما يعارض إرادته من الإرادات ، وما يعارض مراد الله من المرادات ، وهذا أكمل من الأول ، وأعلى منه .

وأما قطع المعاوضات فهو تجريد المعاملة عن إرادة المعاوضة ، بل يجردها لذاته ، وأنه أهل أن يعبد ولو لم يحصل لعابده عوض منه ، فإنه يستحق أن يعبد لذاته لا لعلة ، ولا لعوض ولا لمطلوب ، وهذا أيضا موضع لا بد من تجريده .

فيقال : ملاحظة المعاوضة ضرورية للعامل ، وإنما الشأن في ملاحظة الأعواض وتباينها ، فالمحب الصادق الذي قد تجرد عن ملاحظة عوض قد لاحظ أعظم الأعواض ، وشمر إليها ، وهي قربه من الله ووصوله إليه ، واشتغاله به عما سواه ، والتنعم بحبه ولذة الشوق إلى لقائه ، فهذه أعواض لا بد للخاصة منها ، وهي من أجل مقاصدهم وأغراضهم ، ولا تقدح في مقاماتهم ، وتجريد عبودياتهم ، بل أكملهم عبودية أشدهم التفاتا إلى هذه الأعواض .

نعم طلب الأعواض المنفصلة المخلوقة من الجاه ، والمال ، والرياسة ، والملك أو طلب الحور العين والقصور والولدان ، ونحو ذلك بالنسبة إلى تلك الأعواض التي تطلبها الخاصة معلولة ، وهذا لا شك فيه إذا تجرد طلبهم لها .

أما إذا كان مطلوبهم الأعظم الذاتي هو قربه والوصول إليه ، والتنعم بحبه ، والشوق إلى لقائه ، وانضاف إلى هذا طلبهم لثوابه المخلوق المنفصل فلا علة في هذه العبودية بوجه ما ، ولا نقص ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حولها ندندن يعني الجنة ، وقال [ ص: 477 ] إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة .

ومعلوم أن هذا مسكن خاصة الخاصة ، وسادات العارفين ، فسؤالهم إياه ليس علة في عبوديتهم ، ولا قدحا فيها .

وقد استوفينا ذكر هذا الموضع في ( كتاب سفر الهجرتين ) عند الكلام على علل المقامات .

ويحتمل أن يريد الشيخ بقطع المعاوضات أن تشهد أن الله ما أعطاك شيئا معاوضة ، بل إنما أعطاك تفضلا وإحسانا ، لا لعوض يرجوه منك ، كما يكون عطاء العبد للعبد ، وإنما نتكلم فيما من العبد ، مما يؤمر بالتجرد عنه ، كتجرده عن التفرقة والمعاوضة ، فهذا أليق المعنيين بكلامه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية