الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني في محل ضمان إتلاف الإمام

                                                                                                                                                                        فما تعدى به من التصرفات ، وقصر فيه ، أو أخطأ لا يتعلق بالحكم ، بأن رمى صيدا ، فقتل إنسانا ، حكمه فيه حكم سائر الناس ، فيجب [ ص: 183 ] في ماله ، أو على عاقلته ، وأما الضمان الواجب بخطئه في الأحكام وإقامة الحدود ، فهل هو على عاقلته ، أم في بيت المال ؟ قولان ، أظهرهما : على عاقلته وقد سبقا في باب العاقلة ، فإن قلنا : على العاقلة ، فالكفارة في ماله ، وإن قلنا : على بيت المال ، فهل الكفارة في بيت المال أم في ماله ؟ وجهان ، فلو ضرب الإمام في الخمر ثمانين ، ومات المجلود ، ففي محل الضمان القولان ولو جلد حاملا حدا ، فألقت جنينا ميتا ، ففي محل الغرة القولان ، إن جهل حملها ، فإن علمه ، فقيل : بالقولين ، والمذهب أنها على عاقلته ؛ لأنه عدل عن الصواب عمدا ، ولو انفصل حيا ومات وجب كل الدية ومحلها على ما ذكرنا ، ولو ماتت الحامل ، فقد أطلق في " المختصر " أنه لا يضمنها ، قال الشيخ أبو حامد وغيره : إن ماتت من الجلد وحده ، بأن ماتت قبل الإجهاض ، فلا ضمان وهو موضع النص ، وذكر ابن الصباغ أن فيه والحالة هذه الخلاف فيما لو حده في حر مفرط ، فمات ، وإن ماتت من الإجهاض وحده ، بأن أجهضت ، ثم ماتت ، وأحيل الموت على الإجهاض ، وجب كمال ديتها ، وإن قيل : ماتت بالحد والإجهاض جميعا ، وجب نصف ديتها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        سنذكر في الشهادات - إن شاء الله تعالى - أن القاضي إذا حكم بشهادة اثنين ، ثم بانا عبدين أو ذميين ، نقض الحكم ، وإن بانا فاسقين ، نقضه على الأظهر ، فلو أقام الحد بشهادة اثنين ، ثم بانا ذميين أو عبدين أو امرأتين أو مراهقين أو فاسقين ، ومات المحدود ، فقد بان بطلان الحكم ، فينظر إن قصر في البحث عن حالهما ، فالضمان عليه لا يتعلق ببيت المال ولا بالعاقلة أيضا إن تعمد ، قال الإمام : وإنما يتردد في وجوب القصاص ، والراجح الوجوب ؛ لأن الهجوم على القتل ممنوع [ ص: 184 ] منه بالإجماع ، ويحتمل أن لا يجب بإسناده القتل إلى صورة البينة ، وإن لم يقصر في البحث ، بل بذل وسعه ، جرى القولان في أن الضمان على عاقلته أم في بيت المال ثم إذا ضمنت العاقلة أو بيت المال ، فهل يثبت الرجوع على الشاهدين ؟ فيه أوجه ، أحدها : نعم ؛ لأنهما غرا القاضي ، وأصحهما : لا ؛ لأنهما يزعمان أنهما صادقان ، ولم يوجد منهما تعد ، وقد ينسب القاضي إلى تقصير في البحث . والثالث : يثبت الرجوع للعاقلة دون بيت المال ، فإن أثبتنا الرجوع ، طولب الذميان في الحال ، وفي العبدين يتعلق بذمتهما على الأصح ، وقيل : بالرقبة ، وأما المراهقان ، فإن قلنا : يتعلق برقبة العبدين نزلنا ما وجد منهما منزلة الإتلاف ، وإلا فقول الصبي لا يصلح للالتزام ، فلا رجوع ، وإن بانا فاسقين ، فإن قلنا : لا ينقض الحكم ، فلا أثر له ، وإن قلنا : ينقض ، ففي الرجوع عليهما أوجه ، أحدها : نعم كالعبدين ، والثاني : لا ؛ لأن العبد مأمور بإظهار حاله بخلاف الفاسق ، وأصحها : إن كان مجاهرا بالفسق ، ثبت الرجوع ؛ لأن عليه أن يمتنع من الشهادة ، ولأن قبول شهادته مع مجاهرته يشعر بتعزيره ، وإن كان مكاتما ، فلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قتل الجلاد وضربه بأمر الإمام كمباشرة الإمام إذا لم يعلم ظلمه وخطأه ، ويتعلق الضمان والقصاص بالإمام دون الجلاد ؛ لأنه آلته ، ولو ضمناه لم يتول الجلد أحد ، وإن علم أن الإمام ظالم أو مخطئ ، ولم يكرهه الإمام عليه فالقصاص والضمان على الجلاد دون الإمام ، لأنه إذا علم الحال لزمه الامتناع ويجيء على قولنا : أمر الإمام إكراه ، أن يكون هذا كما لو أكرهه ، وإن أكرهه ، فالضمان عليهما ، وإن اقتضى الحال القصاص ، وجب على الإمام ، وفي الجلاد قولان ، ولو أمره بضربه [ ص: 185 ] وقال : أنا ظالم في ضربه ، فضربه الجلاد ومات ، قال البغوي : إن قلنا : أمر السلطان ليس بإكراه ، فالضمان على الجلاد ، وإن قلنا : إكراه ، فإن قلنا : لا ضمان على المكره ، فالضمان على الإمام ، ولو قال : افعل إن شئت ، فليس بإكراه قطعا ، ولو قال : اضرب ما شئت ، أو ما أحببت ، لم تكن له الزيادة على الحد ، فإن زاد ، ضمن ، ولو أمره بقتل في محل الاجتهاد ، كقتل مسلم بذمي ، وحر بعبد ، والإمام والجلاد يعتقدان أنه غير جائز ، فقتله ، قال البغوي القود عليهما إن جعلنا أمر السلطان إكراها ، وأوجبنا القود على المكره والمكره جميعا ، ولو اعتقد الجلاد منعه ، والإمام جوازه ، أو ظن أن الإمام اختار ذلك المذهب ، ففي وجوب القصاص والضمان على الجلاد وجهان ، أصحهما عند الأصحاب : الوجوب ، وبه قطع ابن الصباغ والبغوي وغيرهما ؛ لأن واجبه الامتناع ، فإن أكره فحكمه معروف ، والثاني : لا اعتبار باعتقاد الإمام ولو كان الإمام لا يعتقد جواز قتل حر بعبد ، فأمره به تاركا للبحث ، وكان الجلاد يعتقد جوازه ، فقتله عملا باعتقاده ، فقد بني على الوجهين قتله ، فإن اعتبرنا اعتقاد الإمام ، وجب القصاص ، وإن اعتبرنا اعتقاد الجلاد ، فلا ، قال الإمام : وهذا ضعيف هنا ؛ لأن الجلاد مختار عالم بحال والإمام لم يفوض إليه النظر والاجتهاد بل القتل فقط ، فالجلاد كالمستقل .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        لا ضمان على الحجام إذا حجم أو فصد بإذن من يعتبر إذنه ، فأفضى إلى تلف ، وكذا لو قطع سلعة بالأذن للمعنى الذي ذكرناه في الجلاد بخلاف من قطع يدا صحيحة بإذن صاحبها ، فمات منه ، حيث توجب الدية على قول ؛ لأن الإذن هناك لا يبيح القتل ، وهنا الفعل جائز [ ص: 186 ] لغرض صحيح ، وأما إذا قطع بالأذن ، ووقف القطع فلم يسر ، فلا ضمان بلا خلاف . وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية