الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    أما بعد : وسألت عن الحاكم ، أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق ، والاستدلال بالأمارات ولا يقف مع مجرد ظواهر البينات والإقرار ، حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين ، إذا ظهر منه أنه مبطل وربما ضربه ، وربما سأله عن أشياء تدله على صورة الحال .

                    فهل ذلك صواب أم خطأ ؟ فهذه مسألة كبيرة عظيمة النفع ، جليلة القدر ، إن أهملها الحاكم أو الوالي أضاع حقا كثيرا ، وأقام باطلا كثيرا ، وإن توسع فيها وجعل معوله عليها ، دون الأوضاع الشرعية ، وقع في أنواع من الظلم والفساد وقد سئل أبو الوفاء ابن عقيل عن هذه المسألة ، فقال : ليس ذلك حكما بالفراسة ، بل هو حكم بالأمارات . وإذا تأملتم الشرع وجدتموه يجوز التعويل على ذلك ، وقد ذهب مالك رحمه الله إلى التوصل بالإقرار بما يراه الحاكم وذلك مستند إلى قوله تعالى : { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين } ولذا حكمنا بعقد الأزج ، وكثرة الخشب في [ ص: 4 ] الحائط ، ومعاقد القمط في الخص ، وما يخص المرأة والرجل في الدعاوى .

                    وفي مسألة العطار والدباغ إذا اختصما في الجلد ، والنجار والخياط إذا تنازعا في المنشار والقدوم ، والطباخ والخباز إذا تنازعا في القدر ، ونحو ذلك ، فهل ذلك إلا الاعتماد على الأمارات ؟ وكذلك الحكم بالقافة والنظر في أمر الخنثى ; والأمارات الدالة على أحد حاليه . والنظر في أمارات جهة القبلة ، واللوث في القسامة . انتهى .

                    فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ، ودلائل الحال ، ومعرفة شواهده ، وفي القرائن الحالية والمقالية ، كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام : أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها . وحكم بما يعلم الناس بطلانه لا يشكون فيه ، اعتمادا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله . فهاهنا نوعان من الفقه ، لا بد للحاكم منهما : فقه في أحكام الحوادث الكلية ، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس ، يميز به بين الصادق والكاذب ، والمحق والمبطل . ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع . ومن له ذوق في الشريعة ، واطلاع على كمالاتها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ، ومجيئها بغاية العدل ، الذي يسع الخلائق ، وأنه لا عدل فوق عدلها ، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح : تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها ، وفرع من فروعها ، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها وحسن فهمه فيها : لم يحتج معها إلى سياسة غيرها ألبتة .

                    فإن السياسة نوعان : سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها ، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر ، فهي من الشريعة ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها .

                    ولا تنس في هذا الموضع قول سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم للمرأتين اللتين ادعتا الولد . فحكم به داود [ ص: 5 ] صلى الله عليه وسلم للكبرى فقال سليمان " ائتوني بالسكين أشقه بينكما " فسمحت الكبرى بذلك فقالت الصغرى : " لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها " فقضى به للصغرى ، فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة ، فاستدل برضا الكبرى بذلك ، وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها ، وبشفقة الصغرى عليه ، وامتناعها من الرضا بذلك : على أنها هي أمه ، وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله تعالى في قلب الأم ، وقويت هذه القرينة عنده ، حتى قدمها على إقرارها ، فإنه حكم به لها مع قولها " هو ابنها " .

                    وهذا هو الحق ، فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه أبدا .

                    ولذلك ألغينا إقرار المريض مرض الموت بمال لوارثه لانعقاد سبب التهمة واعتمادا على قرينة الحال في قصده تخصيصه .

                    ومن تراجم قضاة السنة والحديث على هذا الحديث ترجمة أبي عبد الرحمن النسائي في سننه " قال : " التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل كذا ; ليستبين به الحق " .

                    ثم ترجم عليه ترجمة أخرى أحسن من هذه ، فقال : " الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه ، إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به " فهكذا يكون الفهم عن الله ورسوله .

                    ثم ترجم عليه ترجمة أخرى فقال : " نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله ، أو أجل منه " فهذه ثلاث قواعد ورابعة : وهي ما نحن فيه وهي الحكم بالقرائن وشواهد الحال .

                    وخامسة : وهي أنه لم يجعل الولد لهما ، كما يقوله أبو حنيفة ، فهذه خمس سنن في هذا الحديث .

                    ومن ذلك : قول الشاهد الذي ذكر الله شهادته ، ولم ينكر عليه ، ولم يعبه بل حكاها مقررا لها ، فقال تعالى : { واستبقا الباب ، وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ، إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي ، وشهد شاهد من أهلها ، إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من [ ص: 6 ] دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب .

                    وهذا لوث في أحد المتنازعين ، يبين به أولاهما بالحق .

                    وقد ذكر الله سبحانه اللوث في دعوى المال في قصة شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر ، وأمر بالحكم بموجبه .

                    { وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بموجب اللوث في القسامة ، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ، ويستحقون دم القتيل } ، فهذا لوث في الدماء ، والذي في سورة المائدة لوث في الأموال ، والذي في سورة يوسف لوث في الدعوى في العرض ونحوه .

                    وهذا حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه رضي الله عنهم برجم المرأة التي ظهر بها الحبل ، ولا زوج لها ولا سيد .

                    وذهب إليه مالك وأحمد - في أصح روايتيه - اعتمادا على القرينة الظاهرة .

                    وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف - بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل ، أو قيئه خمرا ، اعتمادا على القرينة الظاهرة .

                    ولم تزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم ، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار ، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ، ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة ، وهل يشك أحد رأى قتيلا يتشحط في دمه ، وآخر قائما على رأسه بالسكين : أنه قتله ؟ ولا سيما إذا عرف بعداوته ، ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يمينا أن ذلك الرجل قتله ، ثم قال مالك وأحمد : يقتل به .

                    وقال الشافعي : يقضى عليه بديته وكذلك إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس - وليس ذلك عادته - وآخر هاربا قدامه بيده [ ص: 7 ] عمامة ، وعلى رأسه عمامة : حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعا ، ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف .

                    وهل القضاء بالنكول إلا رجوع إلى مجرد القرينة الظاهرة ، التي علمنا بها ظاهرا أنه لولا صدق المدعي لدفع المدعى عليه دعواه باليمين ؟ فلما نكل عنها كان نكوله قرينة ظاهرة ، دالة على صدق المدعي ، فقدمت على أصل براءة الذمة .

                    وكثير من القرائن والأمارات أقوى من النكول ، والحس شاهد بذلك ، فكيف يسوغ تعطيل شهادتها ؟ ومن ذلك : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه ، وادعى نفاده فقال له : العهد قريب ، والمال أكبر من ذلك } .

                    فهاتان قرينتان في غاية القوة : كثرة المال ، وقصر المدة التي ينفق كله فيها .

                    وشرح ذلك : { أنه صلى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بني النضير من المدينة ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم ، غير الحلقة والسلاح ، وكان لابن أبي الحقيق مال عظيم - بلغ مسك ثور من ذهب وحلي - فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر - وكان بعضها عنوة وبعضها صلحا - ففتح أحد جانبيها صلحا . وتحصن أهل الجانب الآخر . فحصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما ، فسألوه الصلح ، وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل فأكلمك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة . وترك الذرية لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض ، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة ، إلا ثوبا على ظهر إنسان . فقال رسول ، الله صلى الله عليه وسلم : وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا فصالحوه على ذلك } .

                    قال حماد بن سلمة : أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم ، فغلب على الزرع والأرض والنخل ، فصالحوه على أن يجلوا منها ، ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ، واشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر ، حين أجليت النضير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ قال : أذهبته النفقات والحروب ، قال العهد قريب ، والمال أكثر [ ص: 8 ] من ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير ، فمسه بعذاب ، وقد كان قبل ذلك دخل خربة ، فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا . فذهبوا فطافوا ، فوجدوا المسك في الخربة . فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق - وأحدهما زوج صفية - بالنكث الذي نكثوا } .

                    ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة وعقوبة أهل التهم ، وجواز الصلح على الشرط ، وانتقاض العهد إذا خالفوا ما شرط عليهم وفيه من الحكم : إخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم ، وإلا فهو سبحانه قادر على أن يطلع رسوله على الكنز فيأخذه عنوة .

                    ولكن كان في أخذه على هذه الحال من الحكم والفوائد ، وإخزاء الكفرة أنفسهم بأيديهم ما فيه ، والله أعلم .

                    وفي بعض طرق هذه القصة { أن ابن عم كنانة اعترف بالمال حين دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فعذبه } .

                    وفي ذلك دليل على صحة إقرار المكره إذا ظهر معه المال ، وأنه إذا عوقب على أن يقر بالمال المسروق ، فأقر به وظهر عنده : قطعت يده ، وهذا هو الصواب بلا ريب .

                    وليس هذا إقامة للحد بالإقرار الذي أكره عليه ، ولكن بوجود المال المسروق معه الذي توصل إليه بالإقرار .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية