الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : والله لأدخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد ، وقصد إلا أن يشاء أن لا أدخلها ، فقد عقد اليمين على الدخول ، فإن دخلها في ذلك اليوم أو لم يدخل وشاء زيد أن لا يدخل ، لم يحنث ، وإن شاء أن يدخل [ ص: 6 ] فلم يدخل ، حنث ، وكذا لو لم يعرف مشيئة بأن جن ، أو أغمي عليه حتى مضى اليوم ، حنث هكذا نقله المزني عن النص ، ولو قال : والله لا أدخل إلا أن يشاء زيد الدخول ، فإن لم يدخل ، لم يحنث ، وإن دخل وقد شاء زيد دخوله قبل ذلك ، لم يحنث أيضا ، وإن كان شاء أن لا يدخل ، حنث ، ولا تغني مشيئة الدخول بعد ذلك ، وإن لم يعرف مشيئته ، فرواية الربيع عن الشافعي أنه لا يحنث ، والروايتان مختلفتان والصورتان متشابهتان ، وللأصحاب فيهما طريقان ، أحدهما : القطع بالحنث ، وحمل رواية الربيع على ما إذا لم يحصل اليأس من مشيئة ، أو أنه رجع عنه ولم يعلم الربيع رجوعه . والثاني فيهما قولان : أظهرهما : يحنث ، لأن المانع من حنثه المشيئة وقد جعلناها ، والثاني : لا ، للشك . ولو قال : والله لأدخلن إن شاء فلان ، إن دخل ، فاليمين معلقة بالمشيئة ، فلا ينعقد قبلها ولا حكم للدخول قبلها ، فإن شاء انعقدت ، فإن دخل بعده ، بر ، وإلا حنث . وينظر هل قيد الدخول بزمان أو أطلق ؟ وعند الإطلاق عمره وقت الدخول ، فإن مات قبله ، حكمنا بالحنث قبل الموت ، وإن شاء فلان أن لا يدخل أو لم يشأ شيئا ، أو لم تعرف مشيئته ، فلا حنث لأن اليمين لم تنعقد ، وكذا لو قال : والله لا أدخل إن شاء فلان أن لا أدخل ، فلا تنعقد يمينه حتى يشاء فلان أن لا يدخل .

                                                                                                                                                                        الخامسة : الحلف بالمخلوق مكروه كالنبي والكعبة وجبريل والصحابة والآل . قال الشافعي - رحمه الله - : أخشى أن يكون الحلف بغير الله تعالى معصية . قال الأصحاب : أي حراما وإثما ، فأشار إلى تردد فيه ، قال الإمام : والمذهب القطع بأنه ليس بحرام ، بل مكروه . ثم من حلف بمخلوق لم تنعقد يمينه ولا كفارة في حنثه . قال الأصحاب : فلو اعتقد الحالف في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كفر ، وعلى هذا يحمل ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 7 ] " من حلف بغير الله تعالى فقد كفر " ، ولو سبق لسانه إليه بلا قصد لم يوصف بكراهة ، بل هو لغو يمين وعلى هذا يحمل ما ثبت في " الصحيحين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أفلح وأبيه إن صدق " .

                                                                                                                                                                        السادسة : إذا قال إن فعلت كذا ، فأنا يهودي ، أو نصراني ، أو برىء من الله تعالى ، أو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو من الإسلام ، أو من الكعبة ، أو مستحل الخمر أو الميتة ، لم يكن يمينا ولا كفارة في الحنث به ، ثم إن قصد بذلك تبعيد نفسه عنه لم يكفر ، وإن قصد به الرضا بذلك وما في معناه إذا فعله ، فهو كافر في الحال .

                                                                                                                                                                        قلت : قال الأصحاب : وإذا لم يكفر في الصورة الأولى ، فليقل : لا إله إلا الله محمد رسول الله ويستغفر الله ، ويستدل بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف فقال في حلفه : باللات والعزى ، فليقل لا إله إلا الله " . ويستحب أيضا لكل من تكلم بقبح أن يستغفر الله . وتجب التوبة من كل كلام قبيح محرم ، وستأتي صفة التوبة إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات . وقد ذكرت في آخر كتاب الأذكار جملا كثيرة من حكم الألفاظ القبيحة ، واختلاف أحوالها وطرق الخروج منها . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        السابعة : قال أهل اللسان : حروف القسم ثلاثة الباء والواو والتاء المثناة فوق ، قالوا : والأصل الباء وهي من صلة الحلف ، كأن القائل يقول : حلفت بالله ، أو أقسمت بالله ، أو آليت بالله ، ثم لما كثر الاستعمال وفهم المقصود ، حذف الفعل ، ويلي الباء الواو ، لأن الباء تدخل على المضمر تقول : بك وبه لأفعلن ، كما تدخل في المظهر ، والواو تختص بالمظهر فتأخرت ، والتاء بعد الواو ، لأنها لا تدخل إلا على " الله " ، فإذا قال بالله - بالباء الموحدة - لأفعلن ، فإن نوى اليمين ، أو أطلق ، فهي يمين لاشتهار الصيغة بالحلف لغة وشرعا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 8 ] وحكى ابن كج خلافا فيما إذا أطلق ، والمذهب أنه يمين ، وبه قطع الأصحاب ، وإن نوى غير ذلك اليمين بأن قال : أردت بالله وثقت ، أو اعتصمت بالله أو أستعين أو أؤمن بالله ثم ابتدأت لأفعلن ، فالمذهب وبه قطع العراقيون والبغوي والروياني وغيرهم : أنه ليس بيمين ، واستبعد الإمام هذا وجعله زللا أو خللا من ناسخ . ونقل أنه لو نوى غير اليمين وادعى التورية لم يقبل فيما تعلق بحق آدمي ، وهل يدين باطنا ؟ قيل : وجهان ، وقال القاضي حسين : لا يدين قطعا ، لأن الكفارة تتعلق باللفظ المحرم الذي أظهر ما يخالفه ، وأما قوله : والله ، فالمذهب أنه كقوله : بالله على ما ذكرنا ، وأشار بعضهم إلى القطع بأنه يمين بكل حال ، ووجه المذهب أنه قد يريد به القائل والله المستعان ثم يبتدئ لأفعلن ، وليس في ذلك إلا لحن في الإعراب وسيأتي نظائره إن شاء الله تعالى . وأما إذا قال : تالله لأفعلن بالمثناة فوق ، فالمنصوص هنا وفي الإيلاء أنه يمين ، وعن نصه في القسامة أنه ليس بيمين ، وللأصحاب فيه طرق ، أحدها : العمل بظاهر النص . والثاني : فيهما قولان ، والثالث وهو المذهب وبه قال ابن سلمة وأبو إسحاق وابن الوكيل : القطع بأنه يمين . قالوا : ورواية النص في القسامة مصحفة إنما هي بالياء المثناة تحت ، لأن الشافعي - رحمه الله - علل ، فقال : لأنه دعاء وهذا إنما يليق بالمثناة تحت . ثم قيل : أراد إذا قال يا الله على النداء أو قيل أراد يا لله بفتح اللام على الاستغاثة ، وهذا أشبه وأقرب إلى التصحيف ، وقيل : ليست مصحفه ، بل هي محمولة على ما إذا قال له القاضي : قل : بالله ، فقال : تالله ، فلا يحسب ذلك ، لأن اليمين يكون على وفق التحليف ، وكذا [ ص: 9 ] لو قال : قل : بالله فقال : بالرحمن ، لا تحسب يمينه . وعكسه لو قال : قل : تالله بالمثناة فوق ، فقال : بالله الموحدة ، قال القفال : يكون يمينا ، لأنه أبلغ وأكثر استعمالا ، ولو قال : قل : بالله ، فقال : والله ، قال الإمام : فيه تردد ، لأن الباء والواو لا تكادان تتفاوتان ، ولا يمتنع ، المنع للمخالفة . وهذا المعنى يجيء في مسألة القفال ، وهذا الخلاف إذا قال : تالله ولم يقصد اليمين ولا غيرها ، فإن نوى غير اليمين ، فليس بيمين بلا خلاف ، صرح به العراقيون والروياني وغيرهم .

                                                                                                                                                                        قلت : قال الدارمي : لو قال يا الله بالمثناة تحت ، أو فالله بالفاء ، أو أآلله بالاستفهام ونوى اليمين ، فيمين ، وإلا فلا . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        : لو قال : والله لأفعلن برفع الهاء أو نصبها ، كان يمينا ، واللحن لا يمنع الانعقاد ، وقال القفال : في الرفع لا يكون يمينا إلا بالنية .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        : لو حذف حرف القسم ، فقال : الله لأفعلن كذا بجر الهاء أو نصبها أو رفعها ونوى اليمين ، فهو يمين ، وإن لم ينو ، فليس بيمين في الرفع على المذهب ، ولا في الناصب على الصحيح ، ولا في الجر على الأصح ، لأن الرفع يحتمل الابتداء فيبعد الحنث ، ويقرب في الجر الاستعارة بالصلة الجارة ويليه النصب بنزع الجار .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو قال : بله فشدد اللام كما كانت وحذف الألف بعدها ، [ ص: 10 ] فهو غير ذاكر لاسم الله تعالى ولا حالف ، لأن البلة هي الرطوبة ، فلو نوى بذلك اليمين ، فقال الشيخ أبو محمد والإمام الغزالي : وهو يمين ويحمل حذف الألف على اللحن ، لأن الكلمة تجري كذلك على ألسنة العوام أو الخواص .

                                                                                                                                                                        قلت : ينبغي أن لا يكون يمينا ، لأن اليمين لا يكون إلا باسم الله تعالى أو صفته ، ولا يسلم أن هذا لحن ، لأن اللحن مخالفة صواب الإعراب ، بل هذه كلمة أخرى - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية