الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 517 ]

                وتعرف الحقيقة بمبادرتها إلى الفهم بلا قرينة ، وبصحة الاشتقاق منه ، وتصريفه ، نحو أمر يأمر أمرا في الأمر اللفظي ، بخلافه بمعنى الشأن ، نحو : وما أمر فرعون برشيد إذ لا يتصرف ، وباستعمال لفظه وحده من غير مقابل ، كالمكر في غير الله تعالى ، بخلافه فيه نحو : ومكروا ومكر الله ، وباستحالة نفيه ، نحو : البليد ليس بإنسان ، بخلاف ، ليس بحمار .

                التالي السابق


                قوله : " وتعرف الحقيقة بمبادرتها إلى الفهم بلا قرينة " ، إلى آخره .

                لما فرغ من ذكر أقسام التجوز ، أخذ يبين ما تعرف به الحقيقة من المجاز من العلامات ، وذلك من المهمات ، وهو من وجوه :

                أحدها : مبادرتها ، أي : مبادرة الحقيقة إلى الفهم بلا قرينة ، وذلك أن اللفظ المحتمل لمعنيين فأكثر ، إما أن يتبادر فهم أهل اللغة عند إطلاقه بلا قرينة إلى جميع محتملاته ، أو إلى بعضها ، والأول هو المشترك ، كلفظ العين والقرء .

                وأما الثاني : فالمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة ، لأن السامع لو لم يضطر إلى أن الواضع وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى المتبادر ، لما سبق إلى فهمه .

                فإن قيل : يحتمل أن مبادرة ذلك المعنى إلى فهم السامع كان لإلفه له ، وكثرة دوره على الألسنة في عرف التخاطب ، لا لأنه هو الحقيقة الوضعية .

                قلنا : الكلام فيما إذا كان السامع من أهل اللغة الذين يفرقون بين الوضعيات والعرفيات ، ثم بتقدير أن تكون مبادرة اللفظ إلى فهم السامع لإلفه له ، يكون أيضا حقيقة عرفية أو اصطلاحية ، فلا تخرج المبادرة عن كونها تدل على الحقيقة .

                وقولنا : بلا قرينة ، احتراز من مبادرة اللفظ بقرينة ، فإنه لا يدل على الحقيقة ، بل قد يكون اللفظ مجازا ، إذ شرط المجاز القرينة ، لما عرف من أن اللفظ إذا تجرد عن قرينة فهو للحقيقة ، لأنها الأصل عند الإطلاق ، والمجاز خلاف الأصل .

                مثاله : إذا قال القائل : رأيت أسدا ، أو بحرا ، أو حمارا ، ولا قرينة هناك ، حمل [ ص: 518 ] على أنه رأى سبعا ، وماء كثيرا ، والحمار الذي هو أحد أبوي البغل ، ولو قال : رأيت أسدا بيده سيف ، أو بحرا على فرس ، أو حمارا على منبر ، علمنا بهذه القرائن أنه أراد الشجاع والكريم والبليد .

                الوجه الثاني : أن يكون أحد اللفظين يصح فيه الاشتقاق ، والتصريف إلى الماضي والمستقبل ، واسم الفاعل والمفعول ، واللفظ الآخر لا يصح فيه ذلك ، فيكون الأول الحقيقة ، والثاني مجازا ، لأن تصرف اللفظ يدل على قوته وأصالته ، وعدم تصرفه يدل على ضعفه وفرعيته . وقد بينا أن الأصل هو الحقيقة ، والمجاز فرع عليه ، فكان التصرف دليلا على الحقيقة دون المجاز ، وذلك كلفظ الأمر : يطلق على الصيغة الطلبية ، نحو : اضرب ، واجلس ، ويطلق على الشأن والفعل ، نحو : وما أمر فرعون برشيد [ هود : 97 ] ، أي : شأنه وفعله ، فلما وجدناهم يصرفون الأمر اللفظي فيقولون : أمر يأمر أمرا ، فهو آمر ومأمور ، ولا يقولون ذلك في الأمر بمعنى الفعل ، دل ذلك على أن الأول حقيقة ، والثاني مجاز . وقد ضعفت هذه العلامة بأنها دعوى عامة ، فلا تثبت بمثال واحد ، ونقضت من حيث الطرد بالرائحة ، هي حقيقة في معناها ، ولم يشتق منها اسم ، ومن حيث العكس بأن البليد يقال له : حمار ، ويجمع على حمر ، فقد اشتق منه اسم مع أنه مجاز .

                قلت : وفي النقض بالرائحة نظر ، فإن فعلها متصرف ، يقال : راح الشيء يراحه ويريحه : إذا وجد ريحه ، وتروح الماء إذا أخذ ريح غيره لقربه ، فهو متروح . وهذا غاية ما يكون من التصرف . [ ص: 519 ]

                الوجه الثالث : أن يكون أحد اللفظين يستعمل وحده من غير مقابل ، والآخر لا يستعمل إلا في المقابلة ، كالمكر في حق غير الله تعالى ، فإنه يصح أن يقال : مكر زيد بعمرو ، ولا يصح ذلك في حق الله تعالى إلا مقابلة لمكر المخلوق ، نحو : ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] ، ومكروا مكرا ومكرنا مكرا [ النمل : 50 ] ، فدل ذلك على أن إسناد المكر إلى الآدمي حقيقة ، وإسناده إلى الله تعالى مجاز ، لأن انفراد اللفظ في الاستعمال دليل تأصله ، وتمكنه واحتياجه فيه إلى ما يقابله دليل على فرعيته وتزلزله ، فلذلك توقف استعماله على مقابل ، لأن العرب استجازوا مع المقابلة ما لم يستجيزوه بدونها .

                قلت : الأجود هنا التمثيل بالنسيان ، فإنه يطلق على المخلوق بدون مقابل ، نحو قوله سبحانه وتعالى : فنسي ولم نجد له عزما [ طه : 115 ] ، وفي حق فتى موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان [ الكهف : 63 ] ، ولا يطلق على الله سبحانه وتعالى إلا مع المقابل ، كقوله سبحانه وتعالى : نسوا الله فنسيهم [ التوبة : 67 ] ، وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ الجاثية : 34 ] ، وفي الحديث : فاليوم أنساك كما نسيتني ، يقوله سبحانه تعالى للكافر يوم القيامة .

                أما التمثيل بالمكر فينتقض بقوله سبحانه وتعالى : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن [ ص: 520 ] مكر الله إلا القوم الخاسرون [ الأعراف : 99 ] ، فأسند الله سبحانه وتعالى المكر إلى نفسه بدون مقابل ، وإنما زعم أن المكر لا ينسب إلى الله تعالى بدون المقابلة من يعتقد أن المكر : هو التوصل إلى الغرض خفية للعجز عنه مجاهرة ، وليس كذلك ، بل هو التوصل إلى المراد خفية ، سواء كان مع العجز عن المجاهرة ، كما في المخلوق ، أو مع القدرة على المجاهرة ، كما في حق الله سبحانه وتعالى ، كقوله سبحانه وتعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [ الأعراف : 182 ] ، وهذا هو حقيقة المكر بهم ، مع قدرته سبحانه وتعالى على اضطرارهم إلى ما يريده منهم جهرا ، بالنار المحرقة أو الملائكة المستحثة ، وما كان ذلك قادحا في عدله سبحانه وتعالى .

                ومن الأمثلة الصحيحة أن الجزاء لا يطلق على لفظ السيئة إلا مع المقابلة نحو : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ الشورى : 40 ] ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                الوجه الرابع : استحالة نفي اللفظ يدل على الحقيقة ، وجواز نفيه يدل على المجاز .

                مثاله : أنه يستحيل أن يقول للإنسان البليد : ليس بإنسان ، ويجوز أن يقول فيه : ليس بحمار ، فالإنسان حقيقة فيه لاستحالة نفيه عنه ، والحمار مجاز فيه لصحة نفيه عنه ، وعكس هذا يصح أن يقول للحمار الحقيقي : ليس بإنسان ، ولا يصح أن يقول : ليس بحمار ، فلفظ الحمار حقيقة فيه ، لاستحالة نفيه عنه .

                وتوجيه هذا مع ظهوره ، أنا قد بينا أن الحقيقة من الحق ، والحق هو الثابت ثبوتا مؤبدا ، والثابت ثبوتا مؤبدا يستحيل زواله وانتفاؤه .

                وللفرق بين الحقيقة والمجاز علامات غير هذه . هذا الذي اتفق ذكره منها [ ص: 521 ] هاهنا .

                فإن قلت : قد ذكرتم حد الحقيقة والمجاز ، والحد لا بد وأن يكون جامعا مانعا ، والحد يراد للتعريف ، ومع جمعه ومنعه يفيد تعريف جزئيات المحدود ، فإن كان الحد الذي ذكرتموه للحقيقة والمجاز يفي بتعريف جزئياتها ، فما الحاجة إلى هذه العلامات الفارقة بينهما ؟ وإن لم يف بذلك ، فليس بحد صحيح ؟

                والجواب أن تعريف الحدود إجمالي وكلي ، وتعريف العلامات والخواص تفصيلي جزئي ، ففائدة ذكر علامات الشيء بعد ذكر حده كفائدة ذكر تفصيله بعد إجماله ، وجزئياته بعد كلياته .

                ومثال ذلك : أن قولنا في حد الإنسان : حيوان ناطق ، يفيدنا معرفة حقيقته على جهة قانونية كلية ، فإذا قلنا بعد ذلك : من علامة الإنسان وخواصه أنه منتصب القامة ، ضحاك ، قابل لتعليم العلوم ونحوه ، أفادنا ذلك من البيان والإيضاح ما لم يفده قولنا : إنه حيوان ناطق .




                الخدمات العلمية