الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 526 ]

                ولا تتوقف صحة استعمال المجاز على نقل استعماله في محله عن العرب على الأظهر ، اكتفاء بالعلاقة المجوزة ، كالاشتقاق والقياس الشرعي واللغوي .

                التالي السابق


                قوله : " ولا تتوقف صحة استعمال المجاز على نقل استعماله في محله عن العرب على الأظهر اكتفاء بالعلاقة المجوزة " . معنى هذا الكلام : أن الأصوليين اختلفوا في استعمال المجاز ، هل يشترط لصحته أن يكون استعماله في محله منقولا عن العرب أم لا ؟ فقال بعضهم : يشترط ذلك ، ولا يجوز مثلا استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، ولا لفظ الحمار في البليد ، ولا لفظ البحر في الرجل الغزير العلم ، أو الكثير العطاء ، أو الفرس الشديد الجري ، ونحوه من الألفاظ المجازية إلا أن ينقل استعماله عن العرب كذلك .

                وقال آخرون : يجوز ذلك وإن لم ينقل استعماله عن العرب ، وهو الأظهر من القولين " اكتفاء " ، أي : " اكتفاء بالعلاقة المجوزة " وهي الصفة الرابطة بين محل الحقيقة والمجاز ، لأنها لو لم تكن كافية في جواز التجوز باللفظ عن محل الحقيقة إلى محل المجاز بمجردها ، لم يكن لها فائدة ، وإلا كانت شرطا في المجاز ، لكن من المحال أن يشترطها الحكماء العقلاء لغير فائدة ، ولا فائدة لها يعتد بها إلا صحة التجوز عند وجودها وعدم صحته عند عدمها مطلقا ، سواء نقل التجوز عن العرب ، أو لم ينقل .

                وفيما يحتج به لهذا القول وجهان :

                أحدهما : أن التجوز والاستعارة مما يحتاج في تحقيقه إلى تدقيق ، والنقليات لا يحتاج فيها إلى ذلك اكتفاء بالنقل ، والتجوز ليس نقليا . [ ص: 527 ]

                الوجه الثاني : أن استعارة لفظ الحقيقة للمجاز إنما هو تبع لاستعارة معناها لمعناه ، وذلك لأن فائدة قولنا للرجل الشجاع : أسد ، إنما هو تعظيمه ، وتعظيمه إنما يحصل إذا استعرنا له صفة الشجاعة من الأسد الحقيقي ، ووصفناه بها ، فثبت أن التجوز باللفظ تبع للتجوز بالمعنى ، ثم التجوز بالمعنى حاصل بمجرد قصد المتكلم للتعظيم والمبالغة ، من غير احتياج إلى السمع ، فكذلك التجوز باللفظ ، يجب أن لا يحتاج التجوز به إلى السمع .

                وهذان وجهان قويان ، وأجاب عنهما في " المحصول " بما ليس له محصول . واحتج المخالف بوجهين :

                أحدهما : أن العلائق بين محل الحقيقة والمجاز متعددة ، كالشجاعة والبخر بين الأسد والرجل الشجاع مثلا ، فلو لم يتوقف التجوز على السماع ، لجاز بكل علاقة وصفية مشتركة بين المحلين ، وذلك يقتضي جواز إطلاق لفظ الأسد على الرجل الأبخر ، بجامع صفة البخر ، لكن ذلك لا يجوز ، فدل على أن التجوز يتوقف على السماع ، واستعمال أهل اللسان .

                الوجه الثاني : أنهم قالوا للإنسان الطويل : نخلة ، بجامع الطول ، ولم يقولوا لكل طويل غير الإنسان : نخلة ، ولولا اشتراط السماع في التجوز لجاز ذلك .

                والجواب عن الأول : أن الواضع إنما فوض إلينا التجوز بشرط ظهور العلاقة ، لئلا يقع في لغته ما يخالفها في البيان ، والبخر علاقة خفية كما سبق ، فلذلك لم [ ص: 528 ] يجز إطلاق لفظ الأسد على الرجل الأبخر ، لا لما ذكرتم .

                وعن الثاني : أن العلاقة بين النخلة والإنسان الطويل ليس مجرد الطول ، بل الطول مع الانتصاب والنمو ، فلذلك لم يجز إطلاق لفظ النخلة على غير الإنسان ، لأنه لم توجد هذه العلاقة إلا بينهما . فلا يجوز تسمية الفرس أو الجمل الطويل الجسم نخلة ، لأنه ليس منتصب الشخص ، ولا تسمية عمود الرخام ونحوه نخلة ، لأنه ليس ناميا ، حتى لو سلمنا أن الطول بمجرده هو العلاقة ، لالتزمنا جواز إطلاق لفظ النخلة على كل طويل .

                وقوله : " بالعلاقة المجوزة " ، أي للتجوز ، لأنها هي المصححة المجوزة له كما سبق .

                قوله : " كالاشتقاق والقياس الشرعي واللغوي " : هذه نظائر كالأصول ، يقاس عليها جواز التجوز بدون السماع من العرب . وذلك أن الاشتقاق : هو اقتطاع لفظ من لفظ موافق له في حروفه الأصول مع تغيير ما ، وقد تقرر أنا متى وجدنا لفظين مشتركين في المادة - وهي الحروف الأصول - حكمنا بأن أحدهما مشتق من الآخر ، وجاز لنا أن نشتق من تلك المادة ما شئنا ، مع مراعاة شرط الاشتقاق ، من غير توقف على سماع ، كقولنا : ضرب يضرب فهو ضارب ومضروب ، كل هذه الألفاظ مشتقة من الضرب ، لمشاركتها له في الحروف الأصول التي هي ( ض ر ب ) . [ ص: 529 ]

                والضيغم مشتق من الضغم ، لاشتراكهما في مادة ( ض غ م ) ، والجبل : بفتح الجيم والباء مشتق من الجبل ، بسكون الباء ، لأنه طين مجبول استحجر على طول الزمان على ما قيل ، لاشتراكهما في مادة ( ج ب ل ) ، فكما جاز لنا الاشتقاق بمجرد وجود شرطه المذكور من غير سماع ، فكذا ينبغي أن يجوز لنا التجوز بمجرد وجود العلاقة التي هي شرط التجوز من غير سماع .

                وكذا القول في القياس الشرعي : لما كانت أركانه التي يوجد بوجودها أصلا وفرعا وعلة وحكما ، جاز لنا القياس متى وجدت ، وإن لم يسمع ذلك القياس في تلك الصورة المخصوصة من الشارع ، فكذلك ينبغي في التجوز بوجود العلاقة ، وإن لم يسمع من أهل اللغة . وكذلك القياس اللغوي في الأسماء التي تدور مع معانيها القائمة بها وجودا وعدما ، كما سبق في موضعه ، فكذلك في المجاز .

                تنبيه : سمعت بعض فضلاء أصحابنا يفرق بين مجاز الاستدلال ومجاز الاستعمال ، فاشترط النقل للأول دون الثاني .

                وتقرير الفرق : أنا إذا سمعنا كلاما قد تجوز فيه قائله ، ككلام الشارع ونحوه ، وأردنا أن نستدل به على حكم ، لم يجز لنا أن نحكم عليه برأينا أنه أراد الوجه الفلاني من المجاز بالعلاقة الفلانية دون غيره ، بل يجب أن نعلم بالسماع ما أراد من المجاز ، ثم نستدل به ، بخلاف ما إذا أردنا نحن أن ننشئ كلاما لنا ، نستعمل فيه المجاز ، فإن لنا أن نتجوز كيف شئنا .

                قلت : ولا شك أني ظننت صحة هذا الفرق ، وقوة مأخذه في بادئ الرأي ، [ ص: 530 ] ثم إني نظرت فيه فإذا هو لا ظهور له مع اشتراطنا للمجاز ظهور العلاقة ، سواء كنا مستدلين به من كلام غيرنا ، أو مستعملين له من كلامنا ، وذلك لأنا إذا اشترطنا أن تكون العلاقة في المجاز ظاهرة ، لزم أن تكون العلاقة ظاهرة في كل مجاز ، وإذا كانت ظاهرة ، بادر الذهن إليها في مجاز الاستدلال والاستعمال ، فلم يلزم منه خطأ ولا محال ، حتى لو رأينا متجوزا بعلاقة خفية ، مثل إن أطلق لفظ الأسد على الإنسان ، وقال : أردت أنه أبخر ، أو لفظ الحمار ، وقال : أردت أنه طويل الآذان ، أو مرقوم الذراع ، أو منكر الصوت ، يشبه صوته نهاق الحمار ، لم يعد ذلك كلاما ، لا حقيقة ولا مجازا ، ولو خفي عنا مراد هذا المتكلم ، حتى حملنا نحن كلامه على المجاز المشهور ، فأخطأنا ما أراده ، كانت عهدة الخطأ عليه لا علينا ، حيث غرنا بإطلاق لفظ ، أراد خلاف الظاهر المتعارف منه .

                بقي هاهنا أن يقال : إن العلاقة - التي هي الصفة المشتركة بين محل الحقيقة والمجاز - قد تكون متعددة ومتساوية ، كما يقال للفارس الملبس العظيم الجثة في الحرب : جبل ، وللشاب المليح القوام : رمح ، فإنه يحتمل أن يكون الفارس شبه بالجبل لعدم تأثير السلاح فيه ، كما لا يؤثر في الجبل ، أو لعظم جرمه ، أو [ ص: 531 ] لثبوته واستقراره فهو لا يفر ، كالجبل في ثباته ، والشاب يحتمل أن قوامه شبه بالرمح لطوله واعتداله ، أو لحسن تثنيه واهتزازه . وهذه الاحتمالات متساوية ، يظهر الفرق بتقديرها بين مجاز الاستدلال والاستعمال ، فإن من قال : زيد في الحرب جبل ، احتمل أن علاقة المجاز كل واحدة من المعاني الثلاثة المذكورة ، فإذا حملنا كلامه على تقدير إرادة أحدها ، كنا قد حكمنا عليه بما لا علم لنا به ، وهو غير جائز ، لأنه كذب على ذلك القائل .

                والجواب : أنا إن فرضنا تعدد العلاقة وتساويها كما ذكرتم ، بقي ذلك المجاز بالنسبة إليها من باب المجمل ، يتوقف على البيان الخارجي ، وحيث لا تتعدد العلاقة وتتساوى ، يتعين الظاهر منها والأظهر ، فلا يلزم ما ذكرتم ، ويزول الإشكال .




                الخدمات العلمية