الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 943 ] والمقصود أن الله - سبحانه - في جميع تصرفاته في عباده فاعل حقيقة ، والعبد منفعل حقيقة ، فمن أضاف الفعل والانفعال كلاهما إلى المخلوق كفر ، ومن أضافهما كلاهما إلى الله تعالى كفر ، ومن أضاف الفعل إلى الله تعالى حقيقة ، والانفعال إلى المخلوق حقيقة كما أضافها الله تعالى فهو المؤمن حقيقة .

      فالأول قول القدرية النفاة ، وأول من أحدثه في هذه الأمة معبد الجهني في آخر عصر الصحابة كما قدمنا ، عن يحيى بن يعمر في سياق حديث جبريل السابق في سؤاله النبي - صلى الله عليه وسلم ، عن الدين ، وأنكر عليه ذلك بقية الصحابة وأئمة التابعين ، وتبرءوا من هذا الاعتقاد وكفروا منتحليه ونفوا عنه الإيمان ، وأوصى بعضهم بعضا بمجانبته والفرار من مجالسته ، ثم تقلد عنه ذلك المذهب الفاسد والسنة السيئة التي انتحلها هو ورءوس المعتزلة وأئمتهم المضلون كواصل بن عطاء الغزال وعمرو بن عبيد ، ومن في معناهم وعلى طريقتهم ، حتى بالغ بعضهم فأنكر علم الله تعالى وأنكر كتابة المقادير السابقة ، وجعل العباد هم الخالقين لأفعالهم ، ولهذا كانوا هم مجوس هذه الأمة ، فأما واصل بن عطاء فقال فيه أبو الفتح الأزدي : رجل سوء كافر ، قال الذهبي : كان من أجلاد المعتزلة ، ولد سنة ثمانين بالمدينة ، ومما قيل فيه :


      ويجعل البر قمحا في تصرفه وخالف الراء حتى احتال للشعر     ولم يطق مطرا في القول يجعله
      فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر

      .

      وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل ويقول : إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها ، فلو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم . هلك سنة إحدى وثلاثين ومائة . وأما عمرو بن عبيد فهو ابن ثوبان [ ص: 944 ] ويقال ابن كيسان التيمي مولاهم أبو عثمان البصري من أبناء فارس ، قال ابن كثير : هو شيخ القدرية والمعتزلة ، روى الحديث عن الحسن البصري وعبيد الله بن أنس وأبي العالية وأبي قلابة ، وعنه الحمادان وسفيان بن عيينة والأعمش ، وكان من أقرانه وعبد الوارث بن سعيد وهارون بن موسى ويحيى القطان ويزيد بن زريع . قال الإمام أحمد : ليس بأهل أن يحدث عنه ، وقال علي بن المديني ويحيى بن معين : ليس بشيء . وزاد ابن معين : وكان رجل سوء ، وكان من الدهرية الذين يقولون إنما الناس مثل الزرع . وقال الفلاس : متروك صاحب بدعة ، كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه ، وكان ابن مهدي لا يحدث عنه ، وقال أبو حاتم : متروك ، وقال النسائي : ليس بثقة ، وقال شعبة ، عن يونس بن عبيد : كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث . وقال حماد بن سلمة : قال لي حميد : لا تأخذ عنه ، فإنه كان يكذب على الحسن البصري . وكذا قال أيوب وعوف بن عون ، وقال أيوب : ما كنت أعد له عقلا ، وقال مطر الوراق : والله ، لا أصدقه في شيء ، وقال ابن المبارك : إنما تركوا حديثه ; لأنه كان يدعو إلى القدر ، وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل ، وأثنى عليه آخرون في عبادته وزهده وتقشفه ، قال الحسن البصري : هذا سيد شباب القراء ما لم يحدث ، قالوا : فأحدث والله أشد الحدث ، وقال ابن حبان : كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث ، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه ، فسموا المعتزلة ، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا ، وقد روي عنه أنه قال : إن كانت ( تبت يدا أبي لهب ) ، ( المسد 1 ) في اللوح ، فما تعد منه على ابن آدم حجة . وروي له حديث ابن مسعود ، حدثنا الصادق المصدوق : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، حتى قال : فيؤمر بأربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي ، أو سعيد . . . إلى آخره ، فقال : لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته ، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته ، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته ، ولو سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته ، ولو سمعت الله يقول [ ص: 945 ] هذا لقلت : ما على هذا أخذت علينا الميثاق . وهذا من أقبح الكفر ، لعنه الله إن كان قال هذا ، وإذا كان مكذوبا عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه . وقد قال عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى :


      أيها الطالب علما     ائت حماد بن زيد
      فخذ العلم بحلم     ثم قيده بقيد
      وذر البدعة من     آثار عمرو بن عبيد

      .

      وقال ابن عدي : كان عمرو يغر الناس بتقشفه ، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا ، معلن بالبدع . وقال الدارقطني : ضعيف الحديث . وقال الخطيب البغدادي : جالس الحسن واشتهر بصحبته ، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة ، وقال بالقدر ودعا إليه ، واعتزل أصحاب الحديث رحمهم الله تعالى .

      ثم توارث القدرية هذا المذهب الفاسد بعد هؤلاء وتواصوا به ، ثم منهم من نفى علم الله تعالى كأوليهم ، ففيهم من نفى علمه بالكليات والجزئيات ، ومنهم من أثبت العلم بالكليات دون الجزئيات ، ثم افترقوا في أفعال الله كما افترقوا في علمه :

      ففرقة قالت : كل أفعال العباد ليست مقدورة لله ولا مخلوقة له ، لا خيرها ولا شرها .

      والأخرى قالت : الخير من أفعالهم مخلوق له تعالى ومقدور له ، وأما الشر فليس عندهم مخلوقا لله ولا مقدورا له ، فأثبتوا نصف القدر ونفوا نصفه ، وأثبتوا خالقين ، فهم في الحقيقة مجوس ثنوية ، بل أعظم منهم ، فإن الثنوية أثبتوا خالقين للكون كله ، وهؤلاء أثبتوا خالقين لكل فرد من الأفراد ، ولكل فعل من الأفعال ، بل جعلوا المخلوقين كلهم خالقين ، ولولا تناقضهم ، لكانوا أكفر من المجوس ، فإن اطراد قولهم ولازمه وحاصله هو إخراج أفعال العباد عن خلق الله - عز وجل - وملكه ، وأنها ليست داخلة في ربوبيته - عز وجل ، وأنه يكون في ملكه ما [ ص: 946 ] لا يريد ويريد ما لا يكون ، وأنهم أغنياء عن الله - عز وجل - فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته ، ولا يعوذون به من شرور أنفسهم ولا سيئات أعمالهم ، ولا يستهدونه الصراط المستقيم ، فقول إياك نعبد وإياك نستعين ، وقول لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له عندهم ، وربما استنكروه كما جحدوا قوله تعالى : ( من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) ، ( الأنعام 39 ) هذا مع إنكارهم علم الله - عز وجل - وقدرته ومشيئته وإرادته ، وغير ذلك من صفاته - تبارك وتعالى - عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية