الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      القضاء والقدر أربع مراتب .

      والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب ، جاء بها نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بها عن ربه تعالى :

      ( الأول ) : علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم .

      ( الثانية ) : كتابته ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض .

      [ ص: 951 ] ( الثالثة ) : مشيئتة المتناولة لكل موجود ، فلا خروج لكائن عن مشيئته ، كما لا خروج له عن علمه .

      ( الرابعة ) : خلقه له وإيجاده وتكوينه ، فإنه لا خالق إلا الله ، والله خالق كل شيء ، فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ، ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق ، ويؤمنون مع ذلك بحكمته وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه ، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة ، هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه ، وأن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته ، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره ، كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها ، بل هي أمر وراء ذلك ، وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ، ولأجلها خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وأمات وأحيا ، وأسعد وأشقى ، وأضل وهدى ، ومنع وأعطى ، وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها ، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات ، وهو محال ، إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة ، فنفي الوسيلة وهي الفعل لازم لنفي الغاية وهي الحكمة ، ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة ، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل ، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته ، وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه ، وأما من أثبت حكمته تعالى وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة ولما جاءت به الرسل ، لم يلزم من قوله محذور البتة ، بل قوله حق ، ولازم الحق حق كائنا ما كان .

      والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءهم لكمال ميراثهم لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب تعالى وأوامره ، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي وصدقوا بالوعد والوعيد ، فآمنوا بالخالق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة ، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب ، فصدقوا بالخلق والأمر ، ولم ينفوهما بنفي لوازمهما ، كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر ، وكانوا أسعد الناس بالحق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي ، [ ص: 952 ] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . انتهى ما سقنا من كلامه - رحمه الله تعالى - وقد بسط الكلام قبل ذلك وبعده فشفى وكفى ، رحمه الله تعالى .

      والمقصود أن الإيمان بالقدر مرتبط بامتثال الشرع ، وامتثال الشرع مرتبط بالإيمان بالقدر ، وانفكاك أحدهما من الآخر محال ، فإن الإقرار بالقدر مع الاحتجاج به على الشرع ومحاربته به مخاصمة لله تعالى في أمره وشرعه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه ، وطعن في حكمته وعدله ، وانتقاد عليه في إرسال الرسل وإنزال الكتب ، وخلق الجنة لأوليائه المصدقين بها ، وخلق النار لأعدائه المكذبين ، ونسبة لأحكم الحاكمين وأعدل العادلين ، الحكيم في خلقه وشرعه ، العدل في قوله وفعله وحكمه ، إلى العبث والظلم في ذلك كله .

      وكذلك الانقياد في الشرع مع نفي القدر ، وإخراج أفعال العباد عن قدرة الباري ، وجعلهم مستقلين بها مستغنين عنه طعن في ربوبية المعبود وملكوته ، ونسبته إلى العجز ووصفه بما لا يستحق الإلهية ، ولا يتصف بها مما لا يبدئ ولا يعيد ولا يغني عنك شيئا ، تعالى ربنا وتقدس وتنزه وجل وعلا عما يقول الظالمون الجاحدون الملحدون علوا كبيرا ، بل الإيمان بالقدر خيره وشره هو نظام التوحيد ، كما أن الإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره ، وتحجز عن شره ، واستعانة الله عليها هو نظام الشرع ، ولا ينتظم أمر الدين ولا يستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع ، كما قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالقدر ، ثم قال لما قيل له : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ قال : لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له .

      فمن نفى القدر رغم منافاته للشرع ، فقد عطل الله تعالى عن علمه وقدرته ومعاني ربوبيته ، وجعل العبد مستقلا بأفعاله خالقا لها ، فأثبت خالقا مع الله [ ص: 953 ] تعالى ، بل أثبت أن جميع المخلوقين خالقون ، ومن أثبته محتجا به على الشرع محاربا له به نافيا عن العبد قدرته واختياره التي منحه الله تعالى إياها ، وأمره ونهاه وأخبره بحسبها ، زاعما أن الله تعالى كلف عباده ما لا يطاق ، فقد نسب الله تعالى إلى الظلم وإلى العبث وإلى ما لا يليق به ، ورجح حجة إبليس وأثبتها وأقام عذره ، وكان هو إمامه في ذلك إذ يقول : ( رب بما أغويتني ) ، ( الأعراف 16 ) ، وأما المؤمنون حقا فيؤمنون بالقدر خيره وشره ، وأن الله تعالى خالق ذلك كله لا خالق غيره ولا رب سواه ، وينقادون للشرع أمره ونهيه ، ويصدقون خبر الكتاب والرسول ، ويحكمونه في أنفسهم سرا وجهرا ، وأن الهداية والإضلال بيد الله ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته ، وهو أعلم بمواقع فضله وعدله ( هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) ، ( النجم 30 ) وله في ذلك الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، وأن الثواب والعقاب مترتب على الشرع فعلا وتركا ، لا على القدر ، ويعزون أنفسهم بالقدر عند المصائب ، ولا يحتجون به على المعاصي والمعايب ، فإذا وفقوا لحسنة ، عرفوا الحق لأهله ، فقالوا : الحمد لله الذي هدانا سبلنا ( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ، ( الأعراف 43 ) ولم يقولوا كما قال الفاجر : ( إنما أوتيته على علم عندي ) ، ( القصص 78 ) ، وإذا اقترفوا سيئة باءوا بذنبهم وأقروا به ، وقالوا كما قال الأبوان ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) ، ( الأعراف 23 ) ولم يحملوا ذنبهم وظلمهم على القدر ويحتجوا به عليه ، ولم يقولوا كما قال إبليس - لعنه الله : ( رب بما أغويتني ) ، ( الأعراف 16 ) ، وإذا أصابتهم مصيبة رضوا بقضاء الله وقدره ، واستسلموا لتصرف ربهم ومالكهم - تبارك وتعالى - وقالوا كلمة الصابرين ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) ، ( البقرة 156 ) ، ولم يقولوا كما قال الذين كفروا ( وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ) ، ( آل عمران 156 )

      التالي السابق


      الخدمات العلمية