الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 5 ] الأصول الأصول : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، واستصحاب النفي الأصلي . ومصدرها الله عز وجل ، إذ الكتاب قوله ، والسنة بيانه ، والإجماع دال على النص . ومدركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا سماع لنا من الله تعالى ، ولا جبريل . واختلف في أصول يأتي ذكرها .

                وكتاب الله عز وجل كلامه المنزل للإعجاز بسورة منه ، وهو القرآن ، وتعريفه بما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا ، دوري .

                وقال قوم : الكتاب غير القرآن . ورد : بحكاية قول الجن : إنا سمعنا قرآنا ، إنا سمعنا كتابا والمسموع واحد ، وبالإجماع على اتحاد مسمى اللفظين .

                والكلام عند الأشعرية مشترك بين الحروف المسموعة والمعنى النفسي ، وهو نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم ، وعندنا لا اشتراك ، والكلام الأول وهو قديم ، والبحث فيه كلامي .

                التالي السابق


                قوله " الأصول " : قد كنا ذكرنا في صدر " المختصر " أنا نتكلم على أصول الفقه أصلا أصلا ، بعد ذكر مقدمة تشتمل على فصول ، وقد انتهى الكلام على المقدمة بفصولها الأربعة ; فوجب الكلام على الأصول كما وعدنا .

                قوله " الكتاب " : أي الأصول هي : الكتاب " والسنة والإجماع واستصحاب النفي الأصلي " . وتحقيق مفهومات هذه الألفاظ يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى .

                واللام في الأصول للعهد ; لأنه قد سبق ذكرها منكرة في قولنا في أول " المختصر " : فلنتكلم عليها أصلا أصلا . أو يكون التقدير : الأصول التي وعدنا بالكلام عليها هي هذه . وقد سبق أن الأصول هي الأدلة ، وأصول الفقه أدلته [ ص: 6 ] الشرعية ، والدليل الشرعي : هو الذي طريق معرفته الشرع .

                وذكر الآمدي له تقسيما أنا أذكر معناه : وهو أن الدليل الشرعي ; إما أن يرد من جهة الرسول ، أو لا من جهته ، فإن ورد من جهة الرسول ; فهو إما من قبيل ما يتلى : وهو الكتاب ، أو لا : وهو السنة ، وإن ورد لا من جهة الرسول ; فإما أن نشترط فيه عصمة من صدر عنه أو لا ، والأول : الإجماع ، والثاني : إن كان حمل معلوم على معلوم بجامع مشترك ; فهو القياس ، وإلا فهو الاستدلال .

                فالثلاثة الأول - وهي الكتاب ، والسنة ، والإجماع - نقلية ، والآخران معنويان ، والنقلي أصل للمعنوي ، والكتاب أصل للكل .

                فالأدلة إذا خمسة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، والاستدلال ، وعرفه الآمدي بأنه دليل ليس بنص ولا إجماع ولا قياس .

                قلت : وقد ذكرت ضعف هذه الطريقة في التعريف عند تعريف خطاب الوضع بمثلها ، وذكرت أن الاستدلال منها على أنواع :

                منها : وجد السبب ; فيثبت الحكم .

                ومنها : وجد المانع ; فينتفي الحكم .

                ومنها : انتفى الشرط فينتفي الحكم .

                ومنها : القياس المنطقي ، وهو قول مؤلف من مقدمات ، يلزم من تسليمها لذاتها قول آخر ، وهو إما اقتراني أو استثنائي ، والاستثنائي متصل أو منفصل ، [ ص: 7 ] وموضع استقصائه كتب المنطق .

                ومنها : استصحاب الحال .

                قلت : والأنواع الثلاثة الأول داخلة في الاقتراني ، الذي هو أحد قسمي القياس المنطقي ، إذ قولنا : وجد السبب أو المانع ، أو انتفى الشرط ، كله في تقدير تركيب اقتراني ، نحو وجد السبب ، وكلما وجد السبب ، وجد الحكم ، فيلزم عنه : إذا وجد السبب ، وجد الحكم ، وكذلك وجد المانع ، وكلما وجد المانع ، انتفى الحكم .

                وإنما ذكرت تقسيم الدليل هاهنا ، لمناسبة شروعنا في الكلام على أدلة الفقه ، وأيضا كنت قد وعدت عند تعريف الفقه ، وتعرضي هناك بلفظ الاستدلال ، أني أذكر فيه ما ذكرته هنا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                قوله : " ومصدرها الله تعالى " أي : ومصدر هذه الأصول كلها هو الله سبحانه وتعالى ، أي : هو الذي صدرت عنه " إذ الكتاب " أي : لأن الكتاب ، " قوله ، والسنة بيانه " ، أي : بيان الكتاب لقوله سبحانه وتعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ، وربما سبق إلى الفهم أن الضمير في بيانه راجع إلى الله سبحانه وتعالى ، وليس كذلك ، وهكذا اتفق . وقد يتجه ذلك أيضا بناء على قوله عز وجل : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] لكنه ضعيف ، و المراد الأول " والإجماع دال على النص " لما ذكرنا في باب الإجماع من أنه لا يكون إلا عن مستند ; إما نص أو قياس نص .

                قوله : " ومدركها الرسول " أي : مدرك هذه الأصول ، أي : الطريق إلى إدراكها .

                [ ص: 8 ] ومدرك بفتح الميم ; لأنه اسم مكان الإدراك ; لأنه لا سماع لنا من الله تعالى ، ولا من جبريل لقوله سبحانه وتعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [ الشورى : 51 ] ، فلم يبق لنا مدرك لهذه الأصول إلا الرسول عليه السلام . فالكتاب نسمع منه تبليغا ، والسنة تصدر عنه تبيينا والإجماع والقياس مستندان في إثباتهما إلى الكتاب والسنة ، كما سيأتي في بابهما إن شاء الله تعالى .

                والاستدلال المذكور آنفا داخل في حد الدليل ، وقد انعقد الإجماع على مشروعية استعماله في استخراج الأحكام ، وقد بينا آنفا أن مرجع هذه الأصول كلها إلى الكتاب ; لأنها توابع له ، أو متفرعة عنه .

                قوله : " واختلف في أصول يأتي ذكرها " إن شاء الله تعالى ، يعني أن الأصول ضربان : متفق عليه بين الجمهور ، وهي الخمسة المذكورة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، و الاستدلال . ومختلف فيه ، وهو أربعة : شرع من قبلنا ، وقول الصحابي الذي لا مخالف له ، والاستحسان ، والاستصلاح ، وهي على هذا الترتيب في " المختصر " ، وبعدها القياس ، وقد كان ينبغي أن يقدم عليها ، ليكون كل واحد من الأصول المتفق عليها والمختلف فيها متواليا ، لا يتخلله غيره ، لكن قد أبنت عذري في ذلك أول الشرح ، وهو أني اختصرت ولم أستقص أحوال الترتيب .



                قوله : " وكتاب الله كلامه المنزل للإعجاز بسورة منه " . لما بين كمية الأصول ، أخذ في الكلام عليها أول أول ، وأولها الكتاب ; فبدأ بذكر حده الكاشف عن حقيقته .

                [ ص: 9 ] فقوله : " كلامه " : هو جنس يتناول كل كلام تكلم الله به سبحانه وتعالى عربيا كالقرآن ، أو أعجميا كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من صحف الأنبياء ، وما نزل للإعجاب أو لغيره ; كما دل عليه قوله عليه السلام : أوتيت القرآن ومثله معه ، وإن جبريل يأتيني بالسنة كما يأتيني بالقرآن .

                وقوله : " المنزل " : يحترز به ممن يثبت كلام النفس ; لأنه لا يصح فيه التنزيل عنده ، ونحن لا نثبت ذلك ; كما ستراه إن شاء الله تعالى .

                وقوله : " للإعجاز " : احتراز مما نزل لغير الإعجاز ، كما ذكر قبل من الكتب القديمة وغيرها ; فإنها لم تنزل للأعجاز ، بل لبيان الأحكام ، وإنما كانت معجزات أولئك الأنبياء عليهم السلام فعلا لا صفات .

                وقوله : " بسورة منه " : ليدخل في حد الكتاب كل سورة من سوره .

                وقوله : " وهو القرآن " : أي : كتاب الله : هو القرآن ، وقد ذكر الخلاف فيه بعد .

                [ ص: 10 ] قوله : " وتعريفه " أي : تعريف الكتاب والقرآن " بما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلا متواترا ، دوري " أي : هذا التعريف يلزم منه الدور .

                قلت : هؤلاء القوم لم يسمهم الشيخ أبو محمد ، ولم أعلم من هم ، فإن كان هذا النقل صحيحا ; فهؤلاء القوم : إما مخطئون ، أو النزاع معهم لفظي .

                أما وجه خطئهم : فهو أن يكونوا نظروا إلى تغاير لفظ القرآن والكتاب ; فحكموا بالتغاير ، ولم ينظروا في الدليل المذكور بعد ، وأما وجه كون نزاعهم لفظيا ; فهو أن يكونوا خصوا كلام الله تعالى بكلامه النفسي ، على ما هو رأي الجهمية والأشعرية ، وخصوا القرآن بهذه العبارات المتلوة الدالة على المعنى النفسي عندهم ، وحينئذ يرجع النزاع إلى إثبات الكلام النفسي ، وتخرج هذه المسألة عن التنازع فيها .

                قوله " ورد " ، أي ورد قول هؤلاء : إن كتاب الله تعالى غير القرآن بوجهين : أحدهما :

                حكاية قول الجن في سورة الجن : إنا سمعنا قرآنا عجبا [ الجن : 1 ] ، وحكاية قولهم في سورة الأحقاف حيث قالوا : إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى [ الأحقاف : 30 ] ، والذي سمعوه واحد ، وهو القرآن ، وقد سموه كتابا ; فدل على أن كتاب الله تعالى هو القرآن .

                ويرد عليه احتمال أنهم سموه كتابا لغة ; لجمعه الأحكام وغيرها ، ولا يلزم من ذلك أن يكون القرآن كتاب الله سبحانه وتعالى ، إلا أن هذا بعيد جدا ، مخالف لمبادرة الأفهام الصحيحة عند سماعها الكلام أن مراده كتاب الله سبحانه وتعالى .

                [ ص: 11 ] الوجه الثاني : إجماع الأمة على اتحاد مسمى اللفظين : الكتاب ، والقرآن ، أي : أن مسماهما واحد ; فالكتاب هو القرآن ، والقرآن هو الكتاب ، والكتاب هو كتاب الله تعالى .

                قوله : " والكلام عند الأشعرية مشترك بين الحروف المسموعة والمعنى النفسي " أي : يطلق لفظ الكلام عليهما بالاشتراك ; فيقال للعبارات المسموعة : كلام ، وللمعنى النفسي : كلام ، وذلك لأنه قد استعمل لغة وعرفا فيهما ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ; فيكون مشتركا ، أما استعماله في العبارات فكثير ظاهر ، كقوله سبحانه وتعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه [ البقرة : 75 ] ، فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه [ التوبة : 6 ] ويقال : سمعت كلام فلان وفصاحته ، يعني ألفاظه الفصيحة ، وأما استعماله في المعنى النفسي ، وهو مدلول العبارات ; فكقوله تعالى : ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول [ المجادلة : 8 ] ، وأسروا قولكم أو اجهروا به [ الملك : 13 ] ، وقول عمر رضي الله عنه في السقيفة : " زورت في نفسي كلاما " ، وقول الشاعر :


                إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

                [ ص: 12 ] ولذلك نظائر . وأما أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ; فلما سبق .

                قلت : ذكر الغزالي أن قوما جعلوا الكلام حقيقة في المعنى ، مجازا في العبارة ، وأن قوما عكسوا ذلك ; فصارت ثلاثة أقوال :

                أحدها : أنه حقيقة في اللفظ ، مجاز في المدلول .

                والثاني : أنه حقيقة في المدلول ، مجاز في لفظه .

                والثالث : أنه مشترك بينهما .

                والأقوال الثلاثة منقولة عن الأشعري فيما حكاه ابن برهان عنه .

                قوله : " وهو " - يعني الكلام النفسي عندهم - نسبة بين مفردين ، قائمة بذات المتكلم . ويعنون بالنسبة بين المفردين أي : بين المعنيين المفردين ، من تعلق أحدهما بالآخر ، وإضافته إليه على جهة الإسناد الإفادي ، أي : بحيث إذا عبر عن تلك النسبة بلفظ يطابقها ، ويؤدي معناها ، كان ذلك اللفظ إسناديا إفاديا ، كما تقدم في الكلام اللفظي أنه ما تضمن كلمتين بالإسناد .

                ومعنى قيام هذه النسبة بالمتكلم على ما كشف عنه الإمام فخر الدين في كتاب " الأربعين " ، هو أن الشخص إذا قال لغيره : اسقني ماء ; فقبل أن يتلفظ بهذه الصيغة ، قام بنفسه تصور حقيقة السقي ، وحقيقة الماء ، والنسبة الطلبية بينهما ; فهذا هو الكلام النفسي ، والمعنى القائم بالنفس . وصيغة قوله : اسقني ماء . عبارة عنه ، ودليل عليه .

                [ ص: 13 ] وشرح القرافي في كتاب " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة " معنى الكلام النفسي ، فقال : إن كل عاقل يجد في نفسه الأمر والنهي ، والخبر عن كون الواحد نصف الاثنين ، وعن حدوث العالم ، ونحو ذلك ، وهو غير مختلف فيه ، ثم يعبر عنه بعبارات ولغات مختلفة ; فالمختلف : هو الكلام اللساني ، وغير المختلف : هو الكلام النفسي القائم بذات الله عز وجل ، ويسمى ذلك العلم الخاص سمعا ; لأن إدراك الحواس إنما هي علوم خاصة ، أخص من مطلق العلم ; فكل إحساس علم ، وليس كل علم إحساسا ، فإذا وجد هذا العلم الخاص في نفس موسى المتعلق بالكلام النفسي القائم بذات البارئ عز وجل ، سمي باسمه الموضوع له في اللغة ، وهو السماع . هذا معنى تقريره .

                قلت : وبسط فيه أكثر من هذا .

                وقال الغزالي في بعض عقائده : من أحال سماع موسى كلاما ليس بصوت ولا حرف ; فليحل يوم القيامة رؤية ذات ليست بجسم ولا عرض .

                قلت : كل هذا تكلف وخروج عن الظاهر ، بل القاطع ، من غير ضرورة إلا خيالات لاغية ، وأوهام متلاشية ، وما ذكروه معارض بأن المعاني لا تقوم شاهدا إلا بالأجسام ، فإذا أجازوا معنى قام بالذات القديمة وليست جسما ; فليجيزوا خروج صوت من الذات القديمة وليست جسما ، إذ كلا الأمرين خلاف الشاهد ، ومن أحال كلاما لفظيا من غير جسم ; فليحل ذاتا مرئية غير جسم ، ولا فرق .

                [ ص: 14 ] قوله : " وعندنا لا اشتراك ، والكلام الأول " ، أي : عندنا ليس الكلام مشتركا بين العبارة ومدلولها ، بل الكلام الأول ، أي : الحروف المسموعة ; فهو حقيقة فيها ، مجاز في مدلولها لوجهين :

                أحدهما : أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق لفظ الكلام إنما هو العبارات ، والمبادرة دليل الحقيقة .

                الثاني : أن الكلام مشتق من الكلم ، لتأثيره في نفس السامع كما سبق ، والمؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل . نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة ، والعبارة مؤثرة بالفعل ; فكانت أولى بأن تكون حقيقة ، وما يؤثر بالقوة مجازا .

                قولهم : استعمل لغة وعرفا فيهما . قلنا : نعم ، لكن بالاشتراك ، أو بالحقيقة فيما ذكرناه والمجاز فيما ذكرتموه ؟ والأول ممنوع .

                قولهم : الأصل في الإطلاق الحقيقة .

                قلنا : نعم ، والأصل عدم الاشتراك ، ثم قد تعارض المجاز والاشتراك المجرد ، والمجاز أولى . ثم إن لفظ الكلام أكثر ما استعمل في العبارات ، وكثرة موارد الاستعمال تدل على الحقيقة ; فأما قوله تعالى : ويقولون في أنفسهم [ المجادلة : 8 ] ; فهو مجاز ; لأنه إنما دل على المعنى النفسي بالقرينة ، ولو أطلق لما فهم منه إلا العبارة ، وكل ما جاء من هذا الباب إنما يفيد مع القرينة ، ومنه قول عمر : " زورت في [ ص: 15 ] نفسي كلاما " إنما أفاد ذلك بقرينة قوله : في نفسي ، وسياق القصة .

                وأما قوله سبحانه وتعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به [ الملك : 13 ] ; فلا حجة فيها ; لأن الإسرار نقيض الجهر ، وكلاهما عبارة ; إحداهما أرفع صوتا من الأخرى .

                وأما الشعر فهو للأخطل ، ويقال : إن المشهور فيه : "

                إن البيان لفي الفؤاد

                " ، وبتقدير أن يكون كما ذكرتم ; فهو مجاز عن مادة الكلام ، وهي التصورات المصححة ، إذ من لا يتصور معنى ما يقول ، لا يوجد منه كلام ، ثم هو مبالغة من هذا الشاعر في ترجيح الفؤاد على اللسان ، إشارة إلى نحو قول القائل :


                لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فما المرء إلا صورة اللحم والدم

                وإلى قوله عليه السلام : ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب .

                ثم العجب من هؤلاء القوم ; مع أنهم عقلاء فضلاء ، يجيزون أن الله سبحانه وتعالى يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا وسمعا لكلامه النفسي ، من غير توسط صوت ولا حرف ، وإن ذلك من خاصية موسى عليه السلام ، مع أن ذلك قلب لحقيقة السمع في الشاهد ، إذ حقيقة السمع في الشاهد اتصال الأصوات [ ص: 16 ] بحاسته ، ثم ينكرون علينا القول بأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بصوت وحرف من فوق السماوات ، لكون ذلك مخالفا للشاهد ، فإن جاز قلب حقيقة السمع شاهدا بالنسبة إلى كلامه ، فلم لا يجوز خلاف الشاهد بالنسبة إلى استوائه وكلامه على ما قلناه ؟ .

                فإن قالوا : لأنه يستحيل وجود حرف وصوت لا من جسم ، ووجود في جهة ليس بجسم . قلنا : إن عنيتم استحالته مطلقا ; فلا نسلم ، إذ البارئ جل جلاله على خلاف الشاهد والمعقول في ذاته وصفاته . وقد وردت النصوص بما قلناه ; فوجب القول به .

                قوله : " وهو قديم " ، يعني كلام الله سبحانه وتعالى على رأينا ، والدليل على قدمه من وجوه :

                أحدها : أن الأشعرية وافقوا على صحة الاستدلال على أن صفات البارئ جل جلاله ; كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، معان زائدة على مفهوم ذاته بالقياس على الشاهد ، وأن الحي من قامت به الحياة ، والعالم من قام به العلم ، وأن الله سبحانه وتعالى لو لم يكن حيا عالما ; لكان جمادا غير عالم ، إذ لا واسطة بينهما وذلك نقص ; فيجب أن ينفى عنه .

                فنقول نحن في إثبات الكلام على رأينا : لو لم يكن متكلما لكان ساكتا لكن السكوت عليه محال ; لأنه نقص ; فيجب أن ينفى عنه ، إنما قلنا : إنه لو لم يكن متكلما لكان ساكتا ; لأنه لا واسطة بين السكوت والكلام المتنازع فيه وإنما قلنا :

                [ ص: 17 ] إن السكوت نقص في حقه سبحانه وتعالى ; لأن السكوت في الشاهد ، لا يكون إلا عن عجز أو صمت ، والعجز عليه سبحانه وتعالى محال ، والصمت إنما يحسن عن الكلام القبيح ، والله سبحانه وتعالى لا يقبح منه قول ولا فعل ، بل نزل أحسن الحديث .

                الوجه الثاني : إجماع السلف على أنه قديم ، وذلك يستدعي قيام قاطع من نص أو غيره ، يكون مستندا للإجماع ، أو نقول : إنه لم ينقل عن أحد من السلف القول بخلق القرآن . فإما أن يكون ذلك مع اعتقادهم وعلمهم أنه مخلوق أو قديم ، أو لترددهم في ذلك ، فإن كان لعلمهم أنه مخلوق ، لزم أن يكونوا قد أجمعوا على كتمان علم فيه تبرئة الله تعالى على زعمهم ، وذلك إجماع منهم على الباطل ، والأمة لا تجتمع في عصر من الأعصار على الباطل ، وإن كان ذلك مع ترددهم فيه ، بحيث لم يتجه لهم الجزم فيه بقول ; فمن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم ، مع كثرتهم وتوفر دواعيهم على معرفة أحكام الدين ، وينكشف لكم . وإن كان سكوتهم عن القول بخلقه لاعتقادهم قدمه ; فهو المطلوب ، وليس للخصم أن يعارض هذا الاستدلال بمثله ; لأن السلف مازالوا شديدين على من قال بخلق القرآن ، تكفيرا ، وتبديعا ، ولعنا ، وسبا ، حتى ظهرت البدعة بالقول بخلقه .

                الوجه الثالث : ما اشتهر عن علي رضي الله عنه ، أنه لما أنكر عليه تحكيم الرجال في دين الله قال : " ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن " وما روى [ ص: 18 ] البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين يقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ويقول : هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهم السلام ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

                والاحتجاج به من وجهين :

                أحدهما : أنه وصف الكلمات بالتامة ; فيقتضي غاية التمام ، وليس ذلك إلا للقديم ، إذ المخلوق ناقص .

                الثاني : أنه عوذ بهما المخلوق ، والمخلوق لا يعوذ بمخلوق ، وإلا لم يكن أحدهما أولى بالتعويذ من الآخر ، ومن المعلوم أنه إنما كان يعوذهما بالوحي المنزل ; فدل على أنه ليس بمخلوق ; فيكون قديما وهو المطلوب .

                واعلم أن إضافة الصوت في الكلام إلى الله تعالى منقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف ، ولفظ الصوت ثابت في البخاري وغيره ، وقد خرج ابن شكر [ ص: 19 ] المصري - وهو من فضلاء أهل الحديث ونقادهم - فيه أربعة عشر حديثا ، ذكر أنها ثابتة عن المحدثين .

                وأيضا : فإن القرآن مملوء منه . قال الله تعالى : حتى يسمع كلام الله [ التوبة : 6 ] ، وإذ نادى ربك موسى [ الشعراء : 10 ] ، وناديناه من جانب الطور [ مريم : 52 ] ، وهو كثير جدا . ومن المستبعد جدا أن يكون هذا الخطاب كله مجازا ، لا حقيقة فيه ، ولو موضع واحد ، وبموضع واحد منه يحصل المطلوب .

                [ ص: 20 ] فإن قيل : هو حقيقة ، ولكن كما قررناه من الكلام النفسي بالاشتراك ، كما قلتم : إن الصفات الواردة في الشرع لله سبحانه وتعالى حقيقة ; لكن مخالفة للصفات المشاهدة ، وهي مقولة بالاشتراك .

                قلنا : نحن اضطرنا إلى القول بالاشتراك في الصفات ورود نصوص الشرع الثابتة بها ; فأنتم ما الذي اضطركم إلى إثبات الكلام النفسي ؟

                فإن قيل : دليل العقل الدال على أنه لا صوت إلا من جسم .

                قلنا : فما أفادكم إثباته شيئا ; لأن الكلام النفسي الذي أثبتموه لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون علما أو تصورا ، على ما سبق تقريره عن أئمتكم ، فإن كان علما ; فقد رجعتم معتزلة ، ونفيتم الكلام بالكلية ، وموهتم على الناس بتسميتكم العلم كلاما ، وإن كان تصورا ; فالتصور في الشاهد : حصول صورة الشيء في العقل ، وإنما يعقل في الأجسام ، وإن عنيتم تصورا مخالفا للتصور في الشاهد ، لائقا بجلال الله سبحانه وتعالى ; فأثبتوا كلاما ، هو عبارة على خلاف الشاهد ، لائقة بجلال الله سبحانه وتعالى .

                قوله : " والبحث فيه كلامي " ، أي : البحث في قدم القرآن متعلق بعلم الكلام ; فهو موضع ذكره ، مع أنا قد ذكرنا منه بلغة وللمسألة مأخذان مختصران :

                أحدهما : أن الكلام حقيقة في العبارة ، أو مشترك بينها وبين مدلولها كما سبق ، وقد بينا عدم الاشتراك .

                الثاني : أن الكلام صفة ذات ، أو صفة فعل ، إذ صفات الذات قديمة ، وصفات الفعل محدثة ، والله أعلم .




                الخدمات العلمية