الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : وهي على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : تعظيم الأمر والنهي ، لا خوفا من العقوبة ، فتكون خصومة للنفس ، ولا طلبا للمثوبة . فيكون مستشرفا للأجرة ، ولا [ ص: 74 ] مشاهدا لأحد . فيكون متزينا بالمراءاة . فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس .

هذا الموضع يكثر في كلام القوم . والناس بين معظم له ولأصحابه ، معتقد أن هذا أرفع درجات العبودية : أن لا يعبد الله ويقوم بأمره ونهيه خوفا من عقابه ، ولا طمعا في ثوابه . فإن هذا واقف مع غرضه وحظ نفسه . وأن المحبة تأبى ذلك . فإن المحب لا حظ له مع محبوبه . فوقوفه مع حظه علة في محبته ، وأن طمعه في الثواب تطلع إلى أنه يستحق بعمله على الله تعالى أجرة . ففي هذا آفتان : تطلعه إلى الأجرة ، وإحسان ظنه بعمله ؛ إذ تطلعه إلى استحقاقه الأجر ، وخوفه من العقاب : خصومة للنفس ، فإنه لا يزال يخاصمها إذا خالفت . ويقول : أما تخافين النار ، وعذابها ، وما أعد الله لأهلها ؟ فلا تزال الخصومة بذلك بينه وبين نفسه .

ومن وجه آخر أيضا : وهو أنه كالمخاصم عن نفسه ، الدافع عنها خصمه الذي يريد هلاكه ، وهو عين الاهتمام بالنفس ، والالتفات إلى حظوظها ، مخاصمة عنها ، واستدعاء لما تلتذ به .

ولا يخلصه من هذه المخاصمة ، وذلك الاستشراف إلا تجريد القيام بالأمر والنهي من كل علة . بل يقوم به تعظيما للآمر الناهي . وأنه أهل أن يعبد ، وتعظم حرماته . فهو يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته ، كما في الأثر الإسرائيلي : لو لم أخلق جنة ولا نارا ، أما كنت أهلا أن أعبد ؟ .

ومنه قول القائل :


هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم     أليس من الواجب المستح
ق على ذوي الورى الشكر للمنعم ؟

فالنفوس العلية الزكية تعبده لأنه أهل أن يعبد ، ويجل ويحب ويعظم . فهو لذاته مستحق للعبادة . قالوا : ولا يكون العبد كأجير السوء . إن أعطي أجره عمل ، وإن لم يعط لم يعمل . فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة .

قالوا : والعمال شاخصون إلى منزلتين : منزلة الآخرة ، ومنزلة القرب من المطاع . [ ص: 75 ] قال تعالى في حق نبيه داود : ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) .

فالزلفى منزلة القرب ، وحسن المآب حسن الثواب والجزاء . وقال تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) والحسنى : الجزاء . والزيادة : منزلة القرب . ولهذا فسرت بالنظر إلى وجه الله عز وجل . وهذان هما اللذان وعدهما فرعون للسحرة إن غلبوا موسى ، فقالوا له : ( إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين ) ، وقال تعالى : ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ) .

قالوا : والعارفون عملهم على المنزلة والدرجة . والعمال عملهم على الثواب والأجرة . وشتان ما بينهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية