الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال صاحب " المنازل " :

الدرجة الثالثة : تهذيب القصد . وهو تصفيته من ذل الإكراه ، وتحفظه من مرض الفتور ، ونصرته على منازعات العلم .

هذه أيضا ثلاثة أشياء تهذب قصده وتصفيه .

أحدها : تصفيته من ذلك الإكراه . أي لا يسوق نفسه إلى الله كرها . كالأجير [ ص: 102 ] المسخر المكلف ، بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعا ومحبة وإيثارا . كجريان الماء في منحدره . وهذه حال المحبين الصادقين . فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضا . ففيها قرة عيونهم ، وسرور قلوبهم ، ولذة أرواحهم . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وجعلت قرة عيني في الصلاة ، وكان يقول : يا بلال ، أرحنا بالصلاة .

فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه : في طاعة محبوبه . بخلاف المطيع كرها ، المتحمل للخدمة ثقلا .

وفي قوله : ذل الإكراه . لطيفة ، وهي أن المطيع كرها يرى أنه لولا ذل قهره ، وعقوبة سيده له لما أطاعه . فهو يتحمل طاعته كالمكره الذي قد أذله مكرهه وقاهره . بخلاف المحب الذي يعد طاعة محبوبه قوتا ونعيما ، ولذة وسرورا ، فهذا ليس الحامل له ذل الإكراه .

والثاني : تحفظه من مرض الفتور . أي توقيه من مرض فتور قصده ، وخمود نار طلبه . فإن العزم هو روح القصد ، ونشاطه كالصحة له . وفتوره مرض من أمراضه . فتهذيب قصده وتصفيته بحميته من أسباب هذا المرض الذي هو فتوره . وإنما يتحفظ منه بالحمية من أسبابه . وهو أن يلهو عن الفضول من كل شيء . ويحرص على ترك ما لا يعنيه . ولا يتكلم إلا فيما يرجو فيه زيادة إيمانه وحاله مع الله ولا يصحب إلا من يعينه على ذلك . فإن بلي بمن لا يعينه فليدرأه عنه ما استطاع ، ويدفعه دفع الصائل .

[ ص: 103 ] الثالث : نصرة قصده على منازعات العلم ، ومعنى ذلك : نصرة خاطر العبودية المحضة ، والجمعية فيها ، والإقبال على الله فيها بكلية القلب ، على جواذب العلم والفكرة في دقائقه ، وتفاريع مسائله وفضلاته . أو أن العلم يطلب من العبد العمل للرغبة والرهبة والثواب ، وخوف العقاب .

فتهذيب القصد : تصفيته من ملاحظة ذلك ، وتجريده : أن يكون قصده وعبوديته محبة لله بلا علة ، وأن لا يحب الله لما يعطيه ويحميه منه . فتكون محبته لله محبة الوسائل ، ومحبته بالقصد الأول لما يناله من الثواب المخلوق . فهو المحبوب له بالذات . بحيث إذا حصل له محبوبه تسلى به عن محبة من أعطاه إياه . فإن من أحبك لأمر والاك عند حصوله . وملك عند انقضائه . والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لغرض من الأغراض . فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض . وإنما مراده : أن محبته تدوم لا تنقضي أبدا ، وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره ، بل يجعل ما سواه وسيلة له إلى محبوبه .

وهذا القدر هو الذي حام عليه القوم ، وداروا حوله . وتكلموا فيه . وشمروا إليه . فمنهم من أحسن التعبير عنه . ومنهم من أساء العبارة . وقصده وصدقه يصلح فساد عبارته . ومن الناس من لم يفهم هذا كما ينبغي ، فلم يجد له ملجأ غير الإنكار . والله يغفر لكل من قصده الحق واتباع مرضاته . فإنه واسع المغفرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية