الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : التوكل مع معرفة التوكل ، النازعة إلى الخلاص من علة التوكل . وهي أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة . لا يشاركه فيها مشارك . فيكل شركته إليه . فإن من ضرورة العبودية : أن يعلم العبد أن الحق سبحانه هو مالك الأشياء وحده .

يريد أن صاحب هذه الدرجة متى قطع الأسباب والطلب ، وتعدى تينك الدرجتين ، فتوكله فوق توكل من قبله . وهو إنما يكون بعد معرفته بحقيقة التوكل ، وأنه دون مقامه ، فتكون معرفته به وبحقيقته نازعة - أي باعثة وداعية - إلى تخلصه من علة التوكل ، أي لا يعرف علة التوكل حتى يعرف حقيقته . فحينئذ يعرف التوكل المعرفة التي تدعوه إلى التخلص من علته .

ثم بين المعرفة التي يعلم بها علة التوكل . فقال : أن يعلم أن ملكة الحق للأشياء [ ص: 136 ] ملكة عزة ؛ أي ملكة امتناع وقوة وقهر ، تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك . فهو العزيز في ملكه ، الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه . كما هو المنفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك .

فالمتوكل يرى أن له شيئا قد وكل الحق فيه ، وأنه سبحانه صار وكيله عليه . وهذا مخالف لحقيقة الأمر ؛ إذ ليس لأحد من الأمر مع الله شيء . فلهذا قال : لا يشاركه فيه مشارك . فيكل شركته إليه . فلسان الحال يقول لمن جعل الرب تعالى وكيله : في ماذا وكلت ربك ؟ أفيما هو له وحده ؟ أو لك وحدك ؟ أو بينكما ؟ فالثاني والثالث ممتنع بتفرده بالملك وحده . والتوكيل في الأول ممتنع ، فكيف توكله فيما ليس لك منه شيء ألبتة ؟ .

فيقال : هاهنا أمران : توكل ، وتوكيل . فالتوكل : محض الاعتماد والثقة والسكون إلى من له الأمر كله . وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها ، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون : من أقوى أسباب توكله ، وأعظم دواعيه .

فإذا تحقق ذلك علما ومعرفة . وباشر قلبه حالا : لم يجد بدا من اعتماد قلبه على الحق وحده ، وثقته به ، وسكونه إليه وحده ، وطمأنينته به وحده ، لعلمه أن حاجاته وفاقاته وضروراته ، وجميع مصالحه كلها : بيده وحده . لا بيد غيره . فأين يجد قلبه مناصا من التوكل بعد هذا ؟

فعلة التوكل حينئد : التفات قلبه إلى من ليس له شركة في ملك الحق . ولا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض . هذه علة توكله . فهو يعمل على تخليص توكله من هذه العلة .

نعم ، ومن علة أخرى . وهي رؤية توكله . فإنه التفات إلى عوالم نفسه .

وعلة ثالثة : وهي صرفه قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه .

فهذه العلل الثلاث : هي علل التوكيل .

وأما التوكل : فليس المراد منه إلا مجرد التفويض . وهو من أخص مقامات العارفين . كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون : ( وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ) [ ص: 137 ] فكان جزاء هذا التفويض قوله : ( فوقاه الله سيئات ما مكروا ) ، فإن كان التوكل معلولا بما ذكره ، فالتفويض أيضا كذلك . وليس فليس .

ولولا أن الحق لله ورسوله ، وأن كل ما عدا الله ورسوله ، فمأخوذ من قوله ومتروك ، وهو عرضة الوهم والخطإ ، لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم ، ولا نجري معهم في مضمارهم ، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ، ومنازل السائرين ، كالنجوم الدراري . ومن كان عنده علم فليرشدنا إليه . ومن رأى في كلامنا زيغا ، أو نقصا وخطأ ، فليهد إلينا الصواب . نشكر له سعيه . ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم . والله أعلم . وهو الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية