الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3164 [ 1762 ] عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء.

                                                                                              رواه مسلم (1471) (14) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (2) ومن باب القصاص في العين وحكم المرتد

                                                                                              (قوله: إن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها ) أي: لم توافقهم في صحتهم. يقال: اجتوى البلد، واستوبله، واستوخمه: إذا سقم فيه عند دخوله.

                                                                                              و( استاقوا الذود ) أي: حملوا الإبل معهم، وهو من السوق، وهو: السير السريع العنيف. وفي الرواية الأخرى: مكان: (الذود): ( لقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وهي: جمع: لقحة. وهي: الناقة ذات اللبن.

                                                                                              و( سمل أعينهم ) أي: غرز فيها الشوك حتى فقأها. قال أبو ذؤيب:


                                                                                              والعين بعدهم كأن حداقها سملت بشوك فهي عور تدمع

                                                                                              [ ص: 19 ]

                                                                                              و( سمر ) أي: فقأها بمسامير محمية; قاله أبو عبيد . وقال غيره: (سمل) و(سمر) بمعنى واحد. أبدلت الراء من اللام. وفيه بعد.

                                                                                              (يستسقون): يسألون أن يسقوا. وفي الأصل: (وقد وقع بالمدينة الموم، وهو البرسام). والبرسام: لفظة يونانية تستعملها الأطباء في كتبهم، يعنون به: وجع الرأس أو الصدر.

                                                                                              وفي الحديث أبواب من الفقه; منها: جواز التطبب، وأن يطب كل جسم بما اعتاد. فإن هؤلاء القوم أعراب البادية، عادتهم شرب أبوال الإبل وألبانها، وملازمتهم الصحارى. فلما دخلوا القرى، وفارقوا أغذيتهم، وعادتهم; مرضوا. فأرشدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، فلما رجعوا إلى عادتهم من ذلك، صحوا، وسمنوا.

                                                                                              وفيه دليل لمالك على طهارة بول ما يؤكل لحمه. وقد تقدم.

                                                                                              وفيه جواز قتل المرتدين من غير استتابة.

                                                                                              وفيه: القصاص من العين بمثل ما فقئت به، كما قال أنس : إنما سمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعينهم; لأنهم سملوا أعين الرعاء، وإنما قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيديهم وأرجلهم؛ لأنهم فعلوا كذلك بالراعي; على ما حكاه أهل التاريخ والسير. قالوا: كان هذا الفعل من هؤلاء المرتدين سنة ست من الهجرة. واسم الراعي: يسار ، وكان نوبيا. فقطعوا يديه، ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا. ففعل بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما فعلوا به.

                                                                                              قلت: وعلى هذا: فلا يكون فيه إشكال. ويكون فيه دليل على القصاص من الجماعة بالواحد في النفس والأطراف. وهو قول مالك ، وجماعة. وخالف في [ ص: 20 ] ذلك أبو حنيفة فقال: لا تقتل الجماعة بالواحد. والحديث حجة عليه.

                                                                                              وقول عمر - رضي الله عنه -: (لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به).

                                                                                              غير أن ذلك الحديث يشكل بما زاده أبو داود فيه من حديث أنس أيضا قال: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم قافة، فأتي بهم، فأنزل الله تعالى في ذلك: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية [المائدة: 33].

                                                                                              وعلى هذا فإنما قطعهم وقتلهم؛ لأنهم محاربون، فلا يكون فيه حجة على شيء مما ذكر قبل هذا من الأوجه المستنبطة; لأنهم إذا كانوا محاربين فهو مخير فيهم. ثم يشكل هذا بما زاده أبو داود فيه من حديث أنس ، فإنه قال فيه بعد ذلك: ثم نهى عن المثلة.

                                                                                              وفيه من حديث أبي الزناد : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قطع أيدي الذين سرقوا لقاحه، وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله في ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية. فإن كان فعل ذلك قصاصا منهم، أو حدا; لأنهم محاربون; فذلك ليس بمثلة منهيا عنها، ولا يعاتب عليه.

                                                                                              قلت: والذي يرتفع به الإشكال -إن شاء الله -: أن طرق حديث أنس الواقعة في كتاب مسلم والبخاري أشهر وأصح من طرق أبي داود وتلك الطرق متوافقة: على أن ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قصاصا منهم بما فعلوا، غير تركهم حتى ماتوا عطاشا، وتكحيلهم بمسامير محماة، كما ذكره أبو داود ، وكما دل عليه قوله: ( وسمر أعينهم ). فيمكن أن يقال: إن الله تعالى عاتبه على ذلك القدر الذي زاده فقط، دون القصاص والقتل، فإن ذلك كان حكمهم. ولم يستتبهم من الردة، إما لأن الاستتابة لم تكن إذ ذاك مشروعة، وإما لأنهم كانوا قد وجب قتلهم إما [ ص: 21 ] بالقصاص، وإما بالحرابة; فلا بد من قتلهم، فلا يظهر للاستتابة فائدة، فاستغنى عنها، والله تعالى أعلم.

                                                                                              غير أنه يبقى على هذا إشكال آخر، وهو: أن من قطع يد رجل أو رجله، أو فقأ عينه، ثم قتله، قتل به، ولم يفعل به شيء مما فعل بالمقتول من قطع، أو جرح، بل يقتل خاصة، إلا أن يكون قد مثل به فيفعل به كما فعل، ثم يقتل. هذا مذهب مالك . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : يجرح، أو يقطع، ثم يقتل. فعلى قولهما لا إشكال فيه. ويزول الإشكال على قول مالك بأنهم مثلوا بالراعي فمثل بهم، ثم قتلوا.

                                                                                              وقد اختلف العلماء فيماذا نزلت: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ؟ [المائدة: 33] فقيل: نزلت في هؤلاء العرنيين كما ذكرناه في حديث أبي داود . وذهب الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح : إلى أنها نزلت في المشركين. وذهب ابن جرير : إلى أنها نزلت في اليهود . قال: ويدخل تحتها كل ذمي وملي. وذهب مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي: إلى أنها نزلت في المسلمين المحاربين. وهذا القول أصحها - إن شاء الله تعالى - لوجهين:

                                                                                              أحدهما: أن الكفار لا تخيير فيهم بين القتل والصلب، وقطع الأيدي والأرجل. وإنما حكم الكافر الأصلي: إما القتل، وإما السباء، أو الجزية. وأما المرتد: فالقتل. وهل يستتاب أو لا ؟ هذا محل الخلاف كما تقدم.

                                                                                              وثانيهما: أن الكافر لو تاب فأسلم بعد القدرة عليه لصحت توبته، وحرم قتله بالإجماع. وآية المحاربة بنصها مخالفة لهذين الوجهين. فدل اختلاف حكم الكافر لحكم المحارب: أن المحارب إنما هو مسلم بحكم اعتقاده، محارب بفعله. فحكمه ما ذكره الله تعالى في آية المحاربة. ثم المحاربة عندنا هي: إخافة السبيل، وإشهار السلاح قصدا لأخذ الأموال، وسعيا بالفساد في الأرض، ويكون خارج [ ص: 22 ] المصر وداخله عندنا، وعند الشافعي . وقال أبو حنيفة ، وعطاء : لا تكون في المصر. وقد فسر مجاهد المحاربة بالزنى والسرقة. وليس بصحيح; لأن الله تعالى قد بين في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -: (أن السارق تقطع يده فقط، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا، أو يرجم إن كان ثيبا محصنا). وأحكام المحارب في هذه الآية خلاف ذلك; اللهم إلا أن يريد ( مجاهد ): إخافة الطرق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج; فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال. ولا ينبغي أن يختلف في ذلك. وقد دخل ذلك في قوله تعالى: ويسعون في الأرض فسادا وأي فساد أعظم من الهجم على حرم المسلمين وأولادهم، وإشهار ذلك، وإظهار السلاح لأجله. وقد كثر ذلك في بلاد الأندلس في هذه المدد القريبة، وظهر فيهم ظهورا فاحشا، بحيث اشترك فيه الشبان بالفعل، وأشياخهم بالإقرار عليه، [وترك الإنكار. فسلط الله عليهم عدوهم فأهلكهم، واستولى على بلادهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون].

                                                                                              فأما حكم المحارب: فأولى الأقوال فيه ما شهد له ظاهر الآية. وهو: تخيير الإمام بين القتل مع الصلب، والقطع، والنفي. فأي ذلك رأى الإمام أنكى، أو أحق، فعل. وهو مروي عن ابن عباس وإليه ذهب عطاء ، والحسن البصري ، والنخعي ، ومجاهد ، والضحاك ، ومالك ، وأبو ثور . واختلف عن مالك في [ ص: 23 ] الصلب. هل يكون قبل القتل أو بعده؟ وروي أيضا عن ابن عباس : أنه إن أخاف السبيل وأخذ المال; قطعت يده ورجله من خلاف. وإن أخذ المال وقتل; قطعت يده ورجله، ثم قتل. وإن قتل، ولم يأخذ مالا; قتل. وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل: نفي. وبه قال قتادة ، وأبو مجلز . وقال الأوزاعي : إن أخاف السبيل، وشهر السلاح; قتل، ولم يصلب. وإن أخذ، وقتل; قتل مصلوبا. وإن أخاف السبيل ولم يقتل; قطع; أخذ المال أو لم يأخذ. وقال الشافعي : إن قتل وأخذ; قتل وصلب. وإن قتل ولم يأخذ; قتل ولم يصلب، ودفع إلى أوليائه، وإن أخذ ولم يقتل; قطعت يده اليمنى، ثم حسمت بالنار، ثم رجله اليسرى، ثم حسمت. وقال أحمد : من قتل قتل، ومن أخذ المال قطع. والأولى: القول بالتخيير. [والله العليم الخبير].




                                                                                              الخدمات العلمية